معلقة طرفة بن العبد

معلقة “طرفة بن العبد” ثاني أهم المعلَّقات الشعرية في الشعر الجاهلي، وتأتي أهميتها – في نظرنا – من أنَّها تُمَثِّل على وجه الدِّقة حياةَ صاحبها الشخصيَّة، وتجربته الخاصَّة، فتتمثَّل فيها قمَّة من قمم الصِّدق الفني والموضوعي، كما أنَّها من ناحية أخرى مثَّلَت – على نحوٍ كبير من المطابقة – حياةَ إنسان الجاهلية، ورؤيتَه، وتصوُّرَه للكون والحياة والإنسان، وحملَت في مضامينها أشجانَه وهمومه، وقضاياه التي شكلت هواجسه، وأسئلته الكبرى التي ظلَّت تُخايله وتمثِّل موقفه من الحياة والموت، كما تمثَّلَت فيها خلاصة تجربته التي قادته إلى نوعٍ من الحكمة الجاهليَّة التي تختلف عن تلك الحكمة التي عرفها العربِيُّ الذي عرف الإسلام، وتأثَّرَت به حياته العامة والخاصة.
وقبل أن نتناول هذه المعلَّقةَ بالقراءة والتحليل، نعرضها مقسَّمةً إلى ما جاء فيها من أغراضٍ، في شكل وحدات على النَّحو التالي:
(1) الأطلال والرحيل:
لِخَوْلَةَ أَطْلاَلٌ بِبَرْقَةِ ثَهْمَدِ
تَلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ بِرَوْضَةِ دَعْمِيٍّ فَأَكْنَافِ حَائِلٍ
ظَلِلْتُ بِهَا أَبْكِي وَأُبْكِي إِلَى الغَدِ وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ
يَقُولُونَ لاَ تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَلَّدِ كَأَنَّ حُدُوجَ الْمَالِكِيَّةِ غُدْوَةً
خَلاَيَا سَفِينٍ بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَدِ عَدَوْلِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِينِ ابْنِ يَامِنٍ
يَجُورُ بِهَا الْمَلاَّحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي يَشُقُّ حَبَابَ الْمَاءِ حَيْزُومُهَا بِهَا
كَمَا قَسَمَ التُّرْبَ الْمُفَايِلُ بِاليَدِ
(2) ذكرى وغزل:
وَفِي الْحَيِّ أَحْوَى يَنْفُضُ الْمَرْدَ شَادِنٌ
مَظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ
تَنَاوَلُ أَطْرَافَ البَرِيرِ وَتَرْتَدِي وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوَّرًا
تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٍ لَهْ نَدِ سَقَتْهُ إِيَاةُ الشَّمْسِ إِلاَّ لِثَاثِهِ
أُسِفَّ وَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بِإِثْمِدِ وَوَجْهٍ كَأَنَّ الشَّمْسَ أَلْقَتْ رِدَاءَهَا
عَلَيْهِ نَقِيُّ اللَّوْنِ لَمْ يَتَخَدَّدِ
(3) ناقة طرفة: المعادل الموضوعي للحياة:
وَإِنِّي لَأُمْضِي الْهَمَّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ
بِعَوْجَاءَ مِرْقَالٍ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي أَمُونٍ كَأَلْوَاحِ الإِرَانِ نَسَأْتُهَا
عَلَى لاَحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُدِ جَمَالِيَّةٌ وَجْنَاءُ تَرْدِي كَأَنَّهَا
سَفَنَّجَةٌ تَبْرِي لِأَزْعَرَ أَرْبَدِ تُبَارِي عِنَاقًا نَاجِيَاتٍ وَأَتْبَعَتْ
وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ تَرَبَّعَتِ القُفَّيْنِ فِي الشَّوْلِ تَرْتَعِي
حَدَائِقَ مَوْلِيِّ الأَسِرَّةِ أَغْيَدِ تَرِيعُ إِلَى صَوْتِ الْمُهِيبِ وَتَتَّقِي
بِذِي خُصَلٍ رَوْعَاتِ أَكْلَفَ مُلْبَدِ كَأَنَّ جَنَاحَيْ مَضْرَحِيٍّ تَكَنَّفَا
حِفَافَيْهِ شُكَّا فِي العَسِيبِ بِمَسْرَدِ فَطَوْرًا بِهِ خَلْفَ الزَّمِيلِ وَتَارَةً
عَلَى حَشَفٍ كَالشَّنِّ ذَاوٍ مُجَدَّدِ لَهَا فَخِذَانِ أُكْمِلَ النَّحْضُ فِيهِمَا
كَأَنَّهُمَا بَابَا مُنِيفٍ مُمَرَّدِ وَطَيُّ مَحَالٍ كَالْحَنِيِّ خُلُوفُهُ
وَأَجْرِنَةٌ لُزَّتْ بِدَأْيٍ مُنَضَّدِ كَأَنَّ كِنَاسَيْ ضَالَةٍ يَكْنُفَانِهَا
وَأَطْرَ قِسِيٍّ تَحْتَ صُلْبٍ مُؤْيَّدِ لَهَا مِرْفَقَانِ أَفْتَلاَنِ كَأَنَّهَا
تَمُرُّ بِسَلْمَيْ دَالِجٍ مُتَشَدِّدِ كَقَنْطَرَةِ الرُّومِيِّ أَقْسَمَ رَبُّهَا
لَتُكْتَنَفَنْ حَتَّى تُشَادَ بِقَرْمَدِ صُهَابِيَّةُ العُثْنُونِ مُوجَدَةُ القَرَا
بَعِيدَةُ وَخْدِ الرِّجْلِ مَوَّارَةُ اليَدِ أُمِرَّتْ يَدَاهَا فَتْلَ شَزْرٍ وَأُجْنِحَتْ
لَهَا عَضُدَاهَا فِي سَقِيفٍ مُسَنَّدِ جَنُوحٌ دِفَاقٌ عَنْدَلٌ ثُمَّ أُفْرِعَتْ
لَهَا كَتِفَاهَا فِي مُعَالًى مُصَعَّدِ كَأَنَّ عُلُوبَ النِّسْعِ فِي دَأَيَاتِهَا
مَوَارِدُ مِنْ خَلْقَاءَ فِي ظَهْرِ قَرْدَدِ تَلاَقَى وَأَحْيَانًا تَبِينُ كَأَنَّهَا
بَنَائِقُ غُرٌّ فِي قَمِيصٍ مُقَدَّدِ وَأَتْلَعُ نَهَّاضٌ إِذَا صَعَّدَتْ بِهِ
كَسُكَّانِ بُوصِيٍّ بِدِجْلَةَ مُصْعِدِ وَجُمْجُمَةٌ مِثْلُ الفَلاَةِ كَأَنَّمَا
وَعَى الْمُلْتَقَى مِنْهَا إِلَى حَرْفِ مِبْرَدِ وَخَدٌّ كَقِرْطَاسِ الشَّآمِي وَمِشْفَرٌ
كَسِبْتِ اليَمَانِي قَدُّهُ لَمْ يُجَرَّدِ وَعَيْنَانِ كَالْمَاوِيَّتَيْنِ اسْتَكَنَّتَا
بِكَهْفَيْ حِجَاجَيْ صَخْرَةٍ قَلْتِ مَوْرِدِ طَحُورَانِ عَوَّارَ القَذَى فَتَرَاهُمَا
كَمَكْحُولَتَيْ مَذْعُورَةٍ أُمِّ فَرْقَدِ وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوَجُّسِ لِلسُّرَى
لِهَجْسٍ خَفِيٍّ أَوْ لِصَوْتٍ مُنَدِّدِ مُؤَلَّلَتَانِ تَعْرِفُ العِتْقَ فِيهِمَا
كَسَامِعَتَيْ شَاةٍ بِحَوْمَلَ مُفْرَدِ وَأَرْوَعُ نَبَّاضٌ أَحَذُّ مُلَمْلَمٌ
كَمِرْدَاةِ صَخْرٍ فِي صَفِيحٍ مُصَمَّدِ وَإِنْ شِئْتُ سَامَى وَاسِطَ الكُورِ رَأْسُهَا
وَعَامَتْ بِضَبْعَيْهَا نَجَاءُ الْخَفَيْدَدِ وَإِنْ شِئْتُ لَمْ تُرْقِلْ وَإِنْ شِئْتُ أَرْقَلَتْ
مَخَافَةَ مَلْوِيٍّ مِنَ العَدِّ مُحْصَدِ وَأَعْلَمُ مَخْرُوتٌ مِنَ الأَنْفِ مَارِنٌ
عَتِيقٌ مَتَى تَرْجُمْ بِهِ الأَرْضَ تَزْدَدِ إِذَا أَقْبَلَتْ قَالُوا تَأَخَّرَ رَحْلُهَا
وَإِنْ أَدْبَرَتْ قَالُوا تَقَدَّمَ فَاشْدُدِ وَتُضْحِي الْجِبَالُ الْحُمْرُ خَلْفِي كَأَنَّهَا
مِنَ البُعْدِ حُفَّتْ بِالْمُلاَء ِالْمُعَضَّدِ وَتَشْرَبُ بِالقَعْبِ الصَّغِيرِ وَإِنْ تُقَدْ
بِمِشْفَرِهَا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ تَنْقَدِ عَلَى مِثْلِهَا أَمْضِي إِذَا قَالَ صَاحِبِي:
أَلاَ لَيْتَنِي أَفْدِيكَ مِنْهَا وَأَفْتَدِي وَجَاشَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ خَوْفًا وَخَالَهُ
مُصَابًا وَلَوْ أَمْسَى عَلَى غَيْرِ مَرْصَدِ وَتَغْدُو الْجِبَالُ الغُبْرُ خَلْفِي كَأَنَّهَا
مِنَ البُعْدِ حُفَّتْ بِالْمُلاَءِ الْمُعَضَّدِ
(4) “طرفة” وقومه وفلسفته في الحياة وحكمته:
إِذَا القَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتًى؟ خِلْتُ أَنَّنِي
عُنِيتُ فَلَمْ أَكْسَلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدِ وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً
وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أَرْفِدِ وَإِنْ تَبْغِنِي فِي حَلْقَةِ القَوْمِ تَلْقَنِي
وَإِنْ تَقْتَنِصْنِي فِي الْحَوَانِيتِ تَصْطَدِ مَتَى تَأْتِنِي أَصْبَحْكَ كَأْسًا رَوِيَّةً
وَإِنْ كُنْتَ عَنْهَا غَانِيًا فَاغْنِ وَازْدَدِ وَإِنْ يَلْتَقِ الْحَيُّ الْجَمِيعُ تُلاَقِنِي
إِلَى ذِرْوَةِ البَيْتِ الكَرِيمِ الْمُصَمَّدِ نَدَامَايَ بِيضٌ كَالنُّجُومِ وَقَيْنَةٌ
تَرُوحُ عَلَيْنَا بَيْنَ بُرْدٍ وَمَجْسَدِ رَحِيبٌ قِطَابُ الْجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ
بِجَسِّ النَّدَامَى بَضَّةُ الْمُتَجَرِّدِ إِذَا نَحْنُ قُلْنَا أَسْمِعِينَا انْبَرَتْ لَنَا
عَلَى رِسْلِهَا مُطْرُوقَةً لَمْ تَشَدَّدِ إِذَا رَجَّعَتْ فِي صَوْتِهَا خِلْتَ صَوْتَهَا
تَجَاوُبَ أَظْآرٍ عَلَى رُبَعٍ رَدِ وَمَا زَالَ تَشْرَابِي الْخُمُورَ وَلَذَّتِي
وَبَيْعِي وَإِنْفَاقِي طَرِيفِي وَمُتْلَدِي إِلَى أَنْ تَحَامَتْنِي العَشِيرَةُ كُلُّهَا
وَأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ البَعِيرِ الْمُعَبَّدِ رَأَيْتُ بَنِي غَبْرَاءَ لاَ يُنْكِرُونَنِي
وَلاَ أَهْلُ هَذَاكَ الطِّرَافِ الْمُمَدَّدِ أَلاَ أَيُّهَذَا اللاَّئِمِي أَحْضُرَ الوَغَى
وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي فَإِنْ كُنْتَ لاَ تَسْطِيعُ دَفْعَ مَنِيَّتِي
فَدَعْنِي أُبْادِرْهَا بِمَا مَلَكَتْ يَدِي أَرَى العَيْشَ كَنْزًا نَاقِصًا كُلَّ لَيْلَةٍ
وَمَا تَنْقُصُ الأَيَّامُ وَالدَّهْرُ يَنْفَدِ أَرَى الْمَوْتَ أَعْدَادَ النُّفُوسِ وَلاَ أَرَى
بَعِيدًا غَدًا مَا أَقْرَبَ اليَوْمَ مِنْ غَدِ وَلَوْلاَ ثَلاَثٌ هُنَّ مِنْ عِيشَةِ الفَتَى
وَجَدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي وَمِنْهُنَّ سَبْقِي العَاذِلاَتِ بِشَرْبَةٍ
كُمَيْتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالْمَاءِ تُزْبِدِ وَكَرِّي إِذَا نَادَى الْمُضَافُ مُحَنَّبًا
كَسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتَهُ الْمُتَوَرِّدِ وَتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ وَالدَّجْنُ مُعْجَبٌ
بِبَهْكَنَةٍ تَحْتَ الْخِبَاءِ الْمُعَمَّدِ كَأَنَّ البُرَيْنَ وَالدَّمَالِيجَ عُلِّقَتْ
عَلَى عُشَرٍ أَوْ خِرْوَعٍ لَمْ يُخَضَّدِ فَذَرْنِي أُرَوِّ هَامَتِي فِي حَيَاتِهَا
مَخَافَةَ شِرْبٍ فِي الْحَيَاةِ مُصَرَّدِ كَرِيمٌ يُرَوِّي نَفْسَهُ فِي حَيَاتِهِ
سَتَعْلَمُ: إِنْ مُتْنَا غَدًا أَيُّنَا الصَّدِي أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ وَيَصْطَفِي
عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ أَرَى الْمَوْتَ لاَ يَرْعَى عَلَى ذِي جَلاَلَةٍ
وَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَزِيزًا بِمَقْعَدِ أَرَى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخِيلٍ بِمَالِهِ
كَقَبْرِ غَوِيٍّ فِي البَطَالَةِ مُفْسِدِ تَرَى جَثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا
صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَوْتَ مَا أَخْطَأَ الفَتَى
لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِاليَدِ مَتَى مَا يَشَأْ يَوْمًا يَقُدْهُ لِحَتْفِهِ
وَمَنْ يَكُ فِي حَبْلِ الْمَنِيَّةِ يَنْقَدِ
(5) “طرفة” وابن عمِّه مالك: أبعاد مشكلة “طرفة” الاجتماعيَّة:
رَأَيْتُ بَنِي غَبْرَاءَ لاَ يُنْكِرُونَنِي
وَلاَ أَهْلُ هَذَاكَ الطِّرَافِ الْمُمَدَّدِ وَلاَ يَرْهَبُ ابْنُ العَمِّ مَا عِشْتُ صَوْلَتِي
وَلاَ أَخْتَنِي مِنْ صَوْلَةِ الْمُتَهَدِّدِ وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ
لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي فَمَا لِي أَرَانِي وَابْنَ عَمِّيَ مَالِكًا
مَتَى أَدْنُ مِنْهُ يَنْأَ عَنِّي وَيَبْعُدِ يَلُومُ وَمَا أَدْرِي عَلاَمَ يَلُومُنِي
كَمَا لاَمَنِي فِي الْحَيِّ قُرْطُ بْنُ أَعْبَدِ عَلَى غَيْرِ شيءٍ قُلْتُهُ غَيْرَ أَنَّنِي
نَشَدْتُ فَلَمْ أُغْفِلْ حُمُولَةِ مَعْبَدِ بِلاَ حَدَثٍ أَحْدَثْتُهُ وَكَمُحْدِثٍ
هِجَائِي وَقَذْفِي بِالشَّكَاةِ وَمُطْرِدِي وَأَيْأَسَنِي مِنْ كُلِّ خَيْرٍ طَلَبْتُهُ
كَأَنَّا وَضَعْنَاهُ إِلَى رَمْسِ مُلْحَدِ وَلاَ خَيْرَ فِي خَيْرٍ تَرَى الشَّرَّ دُونَهُ
وَلاَ نَائِلٍ يَأْتِيكَ بَعْدَ التَّلَدُّدِ وَقَرَّبْتُ بِالقُرْبَى وَجَدِّكَ إِنَّنِي
مَتَى يَكُ أَمْرٌ لِلنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ وَإِنْ أُدْعَ لِلْجُلَّى أَكُنْ مِنْ حُمَاتِهَا
وَإِنْ يَأْتِكَ الأَعْدَاءُ بِالْجَهْدِ أَجْهَدِ وَإِنْ يَقْذِفُوا بِالقَذْعِ عِرْضَكَ أَسْقِهِمْ
بِكَأْسِ حِيَاضِ الْمَوْتِ قَبْلَ التَّهَدُّدِ فَلَوْ كَانَ مَوْلاَيَ امْرَءًا هُوَ غَيْرُهُ
لَفَرَّجَ كَرْبِي أَوْ لَأَنْظَرَنِي غَدِي وَلَكِنَّ مَوْلاَيَ امْرُؤٌ هُوَ خَانِقِي
عَلَى الشُّكْرِ وَالتَّسْآلِ أَوْ أَنَا مُفْتَدِي وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً
عَلَى النَّفْسِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ فَذَرْنِي وَخُلْقِي إِنَّنِي لَكَ شَاكِرٌ
وَلَوْ حَلَّ بَيْتِي نَائِيًا عِنْدَ ضَرْغَدِ إِذَا أَنْتَ لَمْ تَنْفَعْ بِوُدِّكَ أَهْلَهُ
وَلَمْ تَنْكَ بِالبُؤْسَى عَدُوَّكَ فَابْعَدِ فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ خَالِدٍ
وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ فَأَصْبَحْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَزَارَنِي
بَنُونَ كِرَامٌ سَادَةٌ لِمُسَوَّدِ
(6) مفاخر “طرفة”:
أَنَا الرَّجُلُ الضَّرْبُ الَّذِي تَعْرِفُونَهُ
خَشَاشٌ كَرَأْسِ الْحَيَّةِ الْمُتَوَقِّدِ فَآلَيْتُ لاَ يَنْفَكُّ كَشْحِي بِطَانَةً
لِعَضْبٍ رَقِيقِ الشَّفْرَتَيْنِ مُهَنَّدِ حُسَامٍ إِذَا مَا قُمْتُ مُنْتَصِرًا بِهِ
كَفَى العَوْدَ مِنْهُ البَدْءُ لَيْسَ بِمُعْضَدِ أَخِي ثِقَةٍ لاَ يَنْثَنِي عَنْ ضَرِيبَةٍ
إِذَا قِيلَ مَهْلاً قَالَ حَاجِزُهُ قَدِي إِذَا ابْتَدَرَ القَوْمُ السِّلاَحَ وَجَدْتَنِي
مَنِيعًا إِذَا ابْتَلَّتْ بِقَائِمِهِ يَدِي وَبَرْكٍ هَجُودٍ قَدْ أَثَارَتْ مَخَافَتِي
بَوَادِيَهَا أَمْشِي بِعَضْبٍ مُجَرَّدِ فَمَرَّتْ كَهَاةٌ ذَاتُ خَيْفٍ جُلاَلَةٌ
عَقِيلَةُ شَيْخٍ كَالوَبِيلِ يَلَنْدَدِ يَقُولُ وَقَدْ تَرَّ الوَظِيفُ وَسَاقُهَا
أَلَسْتَ تَرَى أَنْ قَدْ أَتَيْتَ بِمُؤْيِدِ وَقَالَ: أَلاَ مَاذَا؟ تَرَوْنَ بِشَارِبٍ
شَدِيدٍ عَلَيْنَا بَغْيُهُ مُتَعَمَّدِ وَقَالَ ذَرُوهُ إِنَّمَا نَفْعُهَا لَهُ
وَإِلاَّ تَكُفُّوا قَاصِيَ البَرْكِ يَزْدَدِ فَظَلَّ الإِمَاءُ يَمْتَلِلْنَ حُوَارَهَا
وَيَسْعَى عَلَيْنَا بِالسَّدِيفِ الْمُسَرْهَدِ وَيَوْمٍ حَبَسْتُ النَّفْسَ عِنْدَ عِرَاكِهِ
حِفَاظًا عَلَى عَوْرَاتِهِ وَالتَّهَدُّدِ عَلَى مَوْطِنٍ يَخْشَى الفَتَى عِنْدَهُ الرَّدَى
مَتَى تَعْتَرِكْ فِيهِ الفَرَائِصُ تُرْعَدِ وَأَصْفَرَ مَضْبُوحٍ نَظَرْتُ حِوَارَهُ
عَلَى النَّارِ وَاسْتَوْدَعْتُهُ كَفَّ مُجْمِدِ
(7) حِكْمة “طرفة”:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَوَاجِلٌ
أَفِي اليَوْمِ إِقْدَامُ الْمَنِيَّةِ أَمْ غَدِ فَإِنْ تَكُ خَلْفِي لاَ يَفُتْهَا سَوَادِيَا
وَإِنْ تَكُ قُدَّامِي أَجِدْهَا بِمَرْصَدِ فَإِنْ مِتُّ فَانْعَيْنِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ
وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ وَلاَ تَجْعَلِينِي كَامْرِئٍ لَيْسَ هَمُّهُ
كَهَمِّي وَلاَ يُغْنِي غَنَائِي وَمَشْهَدِي بَطِيءٍ عَنِ الْجُلَّى سَرِيعٍ إِلَى الْخَنَا
ذَلُولٍ بِأَجْمَاعِ الرِّجَالِ مُلَهَّدِ لَعَمْرُك مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ
نَهَارِي وَلاَ لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ فَلَوْ كُنْتُ وَغْلاً فِي الرِّجَالِ لَضَرَّنِي
عَدَاوَةُ ذِي الأَصْحَابِ وَالْمُتَوَحِّدِ وَلَكِنْ نَفَى عَنِّي الرِّجَالُ جَرَاءَتِي
عَلَيْهِمْ وَإِقْدَامِي وَصِدْقِي وَمَحْتِدِ لَعَمْرُكَ مَا الأَيَّامُ إِلاَّ مُعَارَةٌ
فَمَا اسْطَعْتَ مِنْ مَعْرُوفِهَا فَتَزَوَّدِ سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً
وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تَبِعْ لَهُ
بَتَاتًا وَلَمْ تَضْرِبْ لَهُ وَقْتَ مَوْعِدِ عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ
فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي
بعد أن عرضنا القصيدة، والظُّروفَ الموضوعيَّة التي أحاطت بها وبكاتبها، من خلال تقسيمها إلى مقاطع سبعة، وإعطاء كلِّ مقطعٍ عنوانًا من واقع الظَّرف الموضوعي الذي أملاه، أو الموضوع الذي يتخلَّله، نودُّ أن نشير إشارة سريعة إلى أنَّ مناهج النقد الأدبي قد اختلفَت فيما بينها حول الوظيفة التي يؤدِّيها النقد للعمل الأدبي، إلاَّ أن القليل منها هو الذي انصبَّت وظيفتُه على تفسير العمل الأدبي وتقييمه، من خلال لغة العمل نفسه، بينما دارت باقي المُحاولات النقديَّة حول النص.
وإذا كان الأدَبُ – ومنه القصيدة – تعبيرًا عن الحدْس بالأشياء، وكان النَّقد ينصبُّ على الدراسة الثقافية لذلك التعبير؛ فقد تنوَّعَت مناهجُ النقد الأدبي، وتنوَّعَت – تبعًا لها – الوظيفةُ التي يقوم بها الناقدُ بحسب المنهج الذي يتبعه، إلاَّ أن هناك اتجاهًا من الاتجاهات النقدية الحديثة يركِّز على تفسير النص الأدبي، وإبراز عطاءاته من خلال لغة النَّص نفسه، بل ويغالي في سبيل ذلك، فيصل إلى حدِّ اعتبار مؤلِّف النص، أو كاتبه عنصرًا ثانويًّا في اكتشاف ما يدلُّ عليه النصُّ، وما يمكن أن ينتج عنه بشكل موضوعي.
كذلك نود أن نشير إلى أن كثيرًا من الدراسات التي تناوَلَت الشِّعر الجاهليَّ قد دارت حول النصِّ، ولم تنفُذْ إلى النصِّ ذاته، بل نظرت له من الخارج بحسب مجموعة الموضوعات التي تناولَتْها القصيدة.
ومن هنا ظهر مفهوم الأغراض الذي قسم القصيدة إلى أقسام، كل قسم يتناول غرضًا من الأغراض المذكورة، وأصبحت القصيدة الجاهلية في نموذجها المثالي محددة بعدد من الأغراض: الوقوف على الأطلال – الغزل – وصف الناقة – وصف الليل – وصف الفرس – وصف الرحلة في الصحراء – وصف المطر…
إلى آخر ما هنالك من الأغراض التي رأى النقد – وبخاصة أصحاب الاتجاه النفسي – أنها أدَّت إلى فقدان القصيدة للوحدة الموضوعيَّة، والوحدة العضوية، والوحدة النفسية، والوحدة الفنية؛ وذلك بحسبان أنَّ هذه المفاهيم يجب أن تكون واضحةً في القصيدة.
ولقد ظهر عددٌ من الدراسات التي حاولت أن تنحو منحًى جديدًا في دراسة الشعر الجاهلي، وذلك بالتركيز على النص الشعري، واستنطاقه؛ للوصول إلى ما يحتويه من القيم الجمالية والفكرية، وغيرها.
لقد كان هدف هذه الدراسات هو لغةَ النصِّ الشعري الذي يحوي – في رأي هؤلاء النفر من النقَّاد – المضمونَ الحقيقيَّ للقصيدة، هذا المضمون الذي يتمثَّل في إظهار روح واحدة، ووحدة نفسيَّة وفكرية واحدة، تُهيمن على القصيدة.
وبالنظر إلى حياة “طَرفة” الذي عانى اليُتم صغيرًا، وعَرف معنى الموت بفقد أبيه – يمكن أن نجد مفتاحًا يبين ملامح فلسفة خاصة، نستقيها من القصيدة، مستمدة في الأصل من تجربة “طرفة” الشخصية، التي تدس بين ثنايا القصيدة مشكلة الروح العام لها، ومظهرة جوًّا نفسيًّا واحدًا يهيمن على القصيدة رغم مقاطعها المتنوعة وأغراضها المتعددة، هذه الروح العامة هي التي تشكِّل وحدة الجو النفسي، وتبدأ من أول أبيات القصيدة بذلك التقليد الفني الذي درج عليه كثير من القصائد الجاهليَّة، وهو الوقوف على الأطلال:
لِخَوْلَةَ أَطْلاَلٌ بِبَرْقَةِ ثَهْمَدِ
تَلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ بِرَوْضَةِ دَعْمِيٍّ فَأَكْنَافِ حَائِلٍ
ظَلِلْتُ بِهَا أَبْكِي وَأُبْكِي إِلَى الغَدِ وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ
يَقُولُونَ لاَ تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَلَّدِ
إن “طرفة” الذي يفتتح المعلقة بهذه المقدمة الطَّلَلية يتحدث عمَّا حدث في لقائه مع الأطلال، بعد وصفها ذلك الوصف الذي جاء عند غير واحد من شعراء الجاهلية: الطلل، وشم أو كتابة تكاد أن تكون قد انمحَت وضاعت معالمها “كباقي الوشم”، كما أن “طرفة” لا يطلب من رفقائه الوقوف للبكاء، كما فعل امرؤ القيس: “قفا نبك”، بل إنه ينخرط بالفعل في البكاء، ويرتبط فعل البكاء بالفعل “ظل”: “ظللت بها أبكي”؛ ليفيد امتداد حالة البكاء فترة من الزمن، حتى إن صحبه وقد رأوه قد اشتد في البكاء، وسيطر عليه الأسى – يرقون له، ويشفقون عليه، إنهم وإن شاركوه الأسى – وربما قد شاركوه البكاء أيضًا – ينبهونه إلى أن البكاء يجب ألا يصل إلى حد الهلكة؛ أسًى، “يقولون: لا تهلك أسًى وتَجَلَّد”.
وهو في موقفه هذا عن الأطلال يتذكر صاحبته (المالكية)، ولعله لقب لـ”خولة” بعد أن ذكرها بالاسم، وفي الانتقال من ذِكر اللقب بعد الاسم – استعادةٌ لصاحبة تلك الذكرى:
كَأَنَّ حُدُوجَ الْمَالِكَيَّةِ غُدْوَةً
خَلاَيَا سَفِينٍ بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَدِ عَدَوْلِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِينِ ابْنِ يَامِنٍ
يَجُورُ بِهَا الْمَلاَّحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي يَشُقُّ حَبَابَ الْمَاءِ حَيْزُومُهَا بِهَا
كَمَا قَسَمَ التُّرْبَ الْمُفَايِلُ بِاليَدِ
إن الصورة التي يرسمها الشاعر لرحيل محبوبته، وما هي فيه من الهوادج مع صاحباتها، مخلفة المكان التي كانت به أطلالاً خرساء، وهي صورة السفن التي تشقُّ عباب الماء، يعرضها الشاعر في ثلاثة أبيات على طريقة الترشيح؛ فبعد أن شبَّه الهوادج بالسُّفن، يسترسل في تأمُّل الصورة، ولعل في ذلك نوعًا من الاسترجاع لتفاصيل الوداع بلحظاته التي انطوت على قدرٍ كبير من المشاعر التي يختلط فيها الحزن بالدَّهشة بالأسى، وهو ما جعل الشاعر يطيل في حركة الهوادج التأمُّلَ وضرب المثال.
ثم يعود ليجسِّد بقية عناصر صورة الطَّلَل قبل أن يصبح طللاً ينطوي على كل هذا القدر من الأسى والحزن:
وَفِي الْحَيِّ أَحْوَى يَنْفُضُ الْمَرْدَ شَادِنٌ
مَظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ
تَنَاوَلُ أَطْرَافَ البَرِيرِ وَتَرْتَدِي وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوَّرًا
تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٍ لَهْ نَدِ سَقَتْهُ إِيَاةُ الشَّمْسِ إِلاَّ لِثَاثِهِ
أُسِفَّ وَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بِإِثْمِدِ وَوَجْهٍ كَأَنَّ الشَّمْسَ أَلْقَتْ رِدَاءَهَا
عَلَيْهِ نَقِيُّ اللَّوْنِ لَمْ يَتَخَدَّدِ
إن “طرفة” هنا يسترسل في وصف ذكريات الطلل يوم كان عامرًا بأهله، وإذ يموج بالحركة وأخص ما به تلك المرأة الصغيرة – الغزال – التي يَخلع “طرفةُ” عليها من صفات الجمال ما يشبه الظَّبية الصغيرة الغريرة، التي تخلَّت عن صواحبها، وانفردت في هذا الوادي، فتكاد تشعر أن الوصف ينطبق على كلٍّ من المرأة والظبية، فلا تدري أيهما المشبَّه، وأيهما المشبَّهُ به، وهذا ما توحي به اللُّغة الرمزية شديدةُ الكثافة في هذا المقطع.
كما أن هذه الصُّورة للوحدة والانفراد (للظبية – المرأة) لها مكنونها في نفس “طرفة” الذي عَرف صغيرًا الوحدة بعد وفاة أبيه، ومن هنا نجد أن غزَله في هذه المقطع يختلف عن غزل امرئ القيس في معلقته بعد الطَّلَلية؛ إذْ يتغزَّل “امرؤ القيس” بعددٍ من النساء، يتذكَّرهن، ويتذكر مغامراته معهن: (أم الحويرث – أم الرباب – وغيرهن ممن ذكرهن في معلقته).
إن “طرفة” ينتقل من غزل سريع وقصير إلى وصف النَّاقة، ثم تُعرَض بعد ذلك صورةُ المرأة عرْضًا عابرًا في الأبيات التي تلي وصف الناقة، أمَّا امرؤ القيس المتهتِّك الذي لا يشغله عن اللذَّة والمغامرة والعبث شاغلٌ، فيختلف عن “طرفة” الذي يحمل همَّ العيش والعوَز والحاجة على كاهله مذ كان صغيرًا، الأمر الذي نجد عكسه عند امرئ القيس (ابن الملك المترف الذي لا تمثِّل الحاجة المادية مشكلة في حياته، والذي انطلق عابثًا لاهيًا في أحياء العرب يبحث عن المغامرة والعبث).
إذا تأملنا أكثر مقاطع معلَّقة “امرئ القيس”، وجدناه يتحدث عن مغامراته العابثة في عددٍ من الأبيات يزيد على الثلاثين بيتًا من المعلقة.
وإذا تأملنا في معلقة “طرفة” وجدنا أكبر مقاطع المعلقة يتحدث عن الناقة فيما يزيد على خمسة وثلاثين بيتًا.
وتدخل ناقة “طرفة” إلى حيِّز الرمز الواسع الفضفاض الذي يرمز إلى أشياء كثيرة في حياة “طرفة”، خصوصًا وأن الناقة هي حياة الجاهلي في الصحراء، تمثِّل ملاذًا آمنًا؛ فمنها ركوبه، ومنها طعامه، ومنها سفره وترحاله، ومنها حلُّه وإقامته، فضلاً عن ذلك تمثل الناقة لـ”طرفة” مادة الحرمان؛ إذ حرمه أقاربه من أن يرث من أبيه شيئًا من النوق بعد وفاته؛ إذْ ذهب بكل ذلك أخوه “معبد”، فأحس بشدة العوز والحاجة إلى الناقة؛ كي تيسر له أسباب الحياة:
وَإِنِّي لَأُمْضِي الْهَمَّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ
بِعَوْجَاءَ مِرْقَالٍ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي
فالناقة إذًا رمز للحركة، كذلك “تروح وتغتدي”.
أَمُونٍ كَأَلْوَاحِ الإِرَانِ نَسَأْتُهَا
عَلَى لاَحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُدِ جَمَالِيَّةٌ وَجْنَاءُ تَرْدِي كَأَنَّهَا
سَفَنَّجَةٌ تَبْرِي لِأَزْعَرَ أَرْبَدِ تُبَارِي عِتَاقًا نَاجِيَاتٍ وَأَتْبَعَتْ
وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ تَرَبَّعَتِ القُفَّيْنِ فِي الشَّوْلِ تَرْتَعِي
حَدَائِقَ مَوْلِيِّ الأَسِرَّةِ أَغْيَدِ
إنها مع حركتها غدوًّا ورواحًا تتَّصف بصفات أخرى كريمة؛ منها أنها موثقة الخُلق، متينة المفاصل، مأمون عثارها عندما تسير على طريق واضح معبَّد مستوٍ، وهي في سباقها مع غيرها من النوق تقذف خفَّ يدها إلى الأمام، فيستوي مكانه خف رجلها؛ وذلك لِحُسن تغذيتها، وعدم وجود فصيل لها، كما أنَّها حظِيَت بأفضل مرعًى من أفضل مرحلة من مراحل الخصب.
إن الناقة هنا تُعادل الحياة، وترمز إليها، ويحاول “طرفة” من خلال هذا الرمز “الناقة” أن يبثَّ قارئ شعره كل ما لديه من الآمال والأحلام، فبينما نجد أن “امرأَ القيس” في معلقته يمضي همومه، ويستعلي عليها بمغامراته وعبثه مع النِّساء، نجد “طرفة” يمضيه بهذه الناقة:
وَإِنِّي لَأُمْضِي الْهَمَّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ
بِعَوْجَاءَ مِرْقَالٍ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي
إنَّ صورتَيِ الحياة عند الشاعرين تختلفان.
امرؤ القيس (ابن الملِك) الذي تعوَّد حياة النعومة والتَّرَف تصبح اللذَّة له هدفًا؛ فهو يتتبعها في كل موطن، بينما “طرفة” الذي نشأ يتيمًا يصبح كل متعته من الحياة متعته بناقته التي تمثل معادلاً موضوعيًّا للحياة والحلم، والأمل والحركة.
ويسترسل “طرفة” في وصف الناقة فيقول:
تَرِيعُ إِلَى صَوْتِ الْمُهِيبِ وَتَتَّقِي
بِذِي خُصَلٍ رَوْعَاتِ أَكْلَفَ مُلْبَدِ كَأَنَّ جَنَاحَيْ مَضْرَحِيٍّ تَكَنَّفَا
حِفَافَيْهِ شُكَّا فِي العَسِيبِ بِمَسْرَدِ فَطَوْرًا بِهِ خَلْفَ الزَّمِيلِ وَتَارَةً
عَلَى حَشَفٍ كَالشَّنِّ ذَاوٍ مُجَدَّدِ لَهَا فَخِذَانِ أُكْمِلَ النَّحْضُ فِيهِمَا
كَأَنَّهُمَا بَابَا مُنِيفٍ مُمَرَّدِ وَطَيُّ مَحَالٍ كَالْحَنِيِّ خُلُوفُهُ
وَأَجْرِنَةٌ لُزَّتْ بِدَأْيٍ مُنَضَّدِ كَأَنَّ كِنَاسَيْ ضَالَةٍ يَكْنُفَانِهَا
وَأَطْرَ قِسِيٍّ تَحْتَ صُلْبٍ مُؤْيَّدِ لَهَا مِرْفَقَانِ أَفْتَلاَنِ كَأَنَّهَا
تَمُرُّ بِسَلْمَيْ دَالِجٍ مُتَشَدِّدِ كَقَنْطَرَةِ الرُّومِيِّ أَقْسَمَ رَبُّهَا
لَتُكْتَنَفَنْ حَتَّى تُشَادَ بِقَرْمَدِ صُهَابِيَّةُ العُثْنُونِ مُوجَدَةُ القَرَا
بَعِيدَةُ وَخْدِ الرِّجْلِ مَوَّارَةُ اليَدِ أُمِرَّتْ يَدَاهَا فَتْلَ شَزْرٍ وَأُجْنِحَتْ
لَهَا عَضُدَاهَا فِي سَقِيفٍ مُسَنَّدِ جَنُوحٌ دِفَاقٌ عَنْدَلٌ ثُمَّ أُفْرِعَتْ
لَهَا كَتِفَاهَا فِي مُعَالًى مُصَعَّدِ
إن هذه الناقة المثالية في صفاتها كما يتمثلها “طرفة” هي المثال الذي يتراءاه لحياة بهذه الصفات، تملؤها القوة من كل جانب، ويواصل “طرفة” الحديث عن صفات هذه الناقة الجسَدية، مازجًا بينها وبين صفاتها المعنوية:
كَأَنَّ عُلُوبَ النِّسْعِ فِي دَأَيَاتِهَا
مَوَارِدُ مِنْ خَلْقَاءَ فِي ظَهْرِ قَرْدَدِ تَلاَقَى وَأَحْيَانًا تَبِينُ كَأَنَّهَا
بَنَائِقُ غُرٌّ فِي قَمِيصٍ مُقَدَّدِ وَأَتْلَعُ نَهَّاضٌ إِذَا صَعَّدَتْ بِهِ
كَسُكَّانِ بُوصِيٍّ بِدِجْلَةَ مُصْعِدِ وَجُمْجُمَةٌ مِثْلُ الفَلاَةِ كَأَنَّمَا
وَعَى الْمُلْتَقَى مِنْهَا إِلَى حَرْفِ مِبْرَدِ وَخَدٌّ كَقِرْطَاسِ الشَّآمِي وَمِشْفَرٌ
كَسِبْتِ اليَمَانِي قَدُّهُ لَمْ يُجَرَّدِ وَعَيْنَانِ كَالْمَاوِيَّتَيْنِ اسْتَكَنَّتَا
بِكَهْفَيْ حِجَاجَيْ صَخْرَةٍ قَلْتِ مَوْرِدِ طَحُورَانِ عَوَّارَ القَذَى فَتَرَاهُمَا
كَمَكْحُولَتَيْ مَذْعُورَةٍ أُمِّ فَرْقَدِ وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوَجُّسِ لِلسُّرَى
لِهَجْسٍ خَفِيٍّ أَوْ لِصَوْتٍ مُنَدِّدِ مُؤَلَّلَتَانِ تَعْرِفُ العِتْقَ فِيهِمَا
كَسَامِعَتَيْ شَاةٍ بِحَوْمَلَ مُفْرَدِ وَأَرْوَعُ نَبَّاضٌ أَحَذُّ مُلَمْلَمٌ
كَمِرْدَاةِ صَخْرٍ فِي صَفِيحٍ مُصَمَّدِ وَإِنْ شِئْتُ سَامَى وَاسِطَ الكُورِ رَأْسُهَا
وَعَامَتْ بِضَبْعَيْهَا نَجَاءُ الْخَفَيْدَدِ وَإِنْ شِئْتُ لَمْ تُرْقِلْ وَإِنْ شِئْتُ أَرْقَلَتْ
مَخَافَةَ مَلْوِيٍّ مِنَ العَدِّ مُحْصَدِ وَأَعْلَمُ مَخْرُوتٌ مِنَ الأَنْفِ مَارِنٌ
عَتِيقٌ مَتَى تَرْجُمْ بِهِ الأَرْضَ تَزْدَدِ إِذَا أَقْبَلَتْ قَالُوا تَأَخَّرَ رَحْلُهَا
وَإِنْ أَدْبَرَتْ قَالُوا تَقَدَّمَ فَاشْدُدِ وَتُضْحِي الْجِبَالُ الْحُمْرُ خَلْفِي كَأَنَّهَا
مِنَ البُعْدِ حُفَّتْ بِالْمُلاَء ِالْمُعَضَّدِ وَتَشْرَبُ بِالقَعْبِ الصَّغِيرِ وَإِنْ تُقَدْ
بِمِشْفَرِهَا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ تَنْقَدِ
إن الشاعر ينتقل من وصف الناقة الجسدي إلى وصفها المعنويِّ، في ثنايا هذا الوصف الجسدي للناقة؛ لأن كلَّ صفة من صفاتها الجسدية إنما تدلُّ على صفة معنوية فيها أصبحت هذه الناقة المثال بهذه المَنْزلة في نفس الشاعر.
إنه يصف جمجمتها بالصلابة، وعظامَها بأنَّها كأنما رُكِّبت على حرف مِبْرد مسن، كما يصف فتوتها وقد تمثلت في خدها الأملس الذي كأنه الصحيفة، وفي مشفرها المصقول كأنه الأدم المدبوغ.
ولا ينسى الشاعر أن يصف عينَيِ الناقة بأنهما في غاية النَّظافة؛ حتى إنَّهما لتطردان ما قد يصيبهما من آثار القذى، وهما في اتِّساعهما وحُسنهما، والكحل الطبيعي فيهما، كأنهما لِبَقرة وحشية، أُمِّ ولَدٍ خافت عليه، ورنت إليه مذعورة.
وكذلك أذناها اللتان تتميزان بالجدِّ، وهما منتصبتان كأذني ثور وحشي غدا وحيدًا في رملة “حومل”، ينبهه أضعف الأصوات ويفزعه، ثم يصف قلبها وأنفها، ويصف تِيهَها بقوَّتِها، وسرعتها وميلانها بذيلها كما تميل الجارية الشابَّة، ترقص أمام صاحبها في مجلس مُنادمته.
إنَّها – كما قلنا – ناقة مثاليَّة، كاملة، تمثل الحلم والمثال الذي ينشده “طرفة”، وتعوض النَّقص الذي يحسُّه “طرفة” الذي عانى ظروفًا نفسيَّة في طفولته بحرمانه من مال أبيه، كل ذلك جعله يتشبَّث بمثال كامل، فلم يجده إلا في الناقة.
إن هذه الناقة تمثل وسيلة النجاة من حياته المتعسرة تعسُّرَ السير في صحراء مقفرة، تكاد تَهلك من يسير فيها:
عَلَى مِثْلِهَا أَمْضِي إِذَا قَالَ صَاحِبِي:
أَلاَ لَيْتَنِي أَفْدِيكَ مِنْهَا وَأَفْتَدِي وَجَاشَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ خَوْفًا وَخَالَهُ
مُصَابًا وَلَوْ أَمْسَى عَلَى غَيْرِ مَرْصَدِ وَتَغْدُو الْجِبَالُ الغُبْرُ خَلْفِي كَأَنَّهَا
مِنَ البُعْدِ حُفَّتْ بِالْمُلاَءِ الْمُعَضَّدِ
لقد وصف الناقة بقوله: “وَإِنِّي لَأُمْضِي الْهَمَّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ”.
وفي ختام وصفها يقول: “عَلَى مِثْلِهَا أَمْضِي”.
إنها كما قلنا: رمز للحركة – الحركة النفسيَّة: “أمضي الهم”، والحركة الحسية: “على مثلها أمضي”.
كما أنها رمز للحياة المثالية التي ينشدها الشاعر وعاش مهمومًا، ومحرومًا منها، كما أنها رمز للنجاة في مسالك الصَّحراء الموحشة المقفِرة حين يسير فيها، حتى إن صاحبه ليتمنَّى أن يفديه بنفسه منها، وهنا يظهر دور الصاحب مرة أخرى، إنَّ له لخِصالاً في المعلَّقة مضى منها من قبل إشفاقُه عليه، وهو يقول له مع بقية أصحابه: “لاَ تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَلَّدِ”، ثم ها هنا يفديه بنفسه من المهالك؛ مما يؤكِّد أنَّ له مَنْزلةً خاصة في حياة طرفة، وفي مجتمع لا يتصف بالكثرة العددية تصبح الصداقة والصُّحبة والألفة ذات معنى كبير.
إن العناصِر التي مرَّتْ في القصيدة هي مفردات حياة العربي الصحراوي: “الأطلال – الصحراء – الصحب – المرأة – الظِّباء – الناقة – …”، هذه المفردات مع ما سيأتي منها هي كل ما يوجد في حياة العربي الصحراوي الجاهلي، ولا غرابة في أن تحتشد كلها في إطار وحدة نفسيَّة وفكرية وفنية واحدة، ولا يكون ذلك إخلالاً بالوحدة النفسيَّة والفكرية والفنية في القصيدة.
إنَّ القصيدة – وقد قسَّمناها إلى وحدات سبعٍ – تسير في نسق فكري واحد، يمثِّل فلسفة “طرفة”، ورؤيته للكون والحياة والإنسان، هذا النسق الذي يختلف مثلاً عن النَّسَق الذي يوجد في معلقة “امرئ القيس”، ويختلف عن النسَق الفكري الذي تحتويه معلقة “زُهير”، وعن النسق الفكري في معلقة “لبيد”… وهكذا.
وفي الوحدة الرَّابعة من وحدات هذه المعلقة: يأتي حديث الشاعر نفسه، إنه حديث مُختلط بالفخر وبتصوير مفردات حياته التي أوصلته إلى الأزمة بينه وبين عشيرته، وذلك في القسم الأول من هذا المقطع، إنه يتحدث في القسم الأول منه عن حياته وصورتها كما هي، أو كما يراها هو، وفي القسم الثاني يتحدث عن فلسفة اللذة التي يُفني نفسه فيها، وهي فلسفة ترى في اللذَّة تعويضًا عن الموت، ثم في القسم الثالث يحدِّثنا عن الموت، ويلخِّص حكمته بشأنه.
إنه يقدم نفسه هكذا:
إِذَا القَوْمُ قَالُوا: مَنْ فَتًى؟ خِلْتُ أَنَّنِي
عُنِيتُ فَلَمْ أَكْسَلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدِ
إنه يشعر في قرارة نفسه أنه المعني بكل نداء إلى المكرمات والشرف، ولذا فهو لا يكسل عن النداء، ولا يتبلد بل إنه ليخيل لسامعه أنه كذلك في كل مكان يمكن أن تجده؛ لأنه لا يختبئ مخافة فعل المكرمات:
وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً
وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أَرْفِدِ وَإِنْ تَبْغِنِي فِي حَلْقَةِ القَوْمِ تَلْقَنِي
وَإِنْ تَقْتَنِصْنِي فِي الْحَوَانِيتِ تَصْطَدِ مَتَى تَأْتِنِي أَصْبَحْكَ كَأْسًا رَوِيَّةً
وَإِنْ كُنْتَ عَنْهَا غَانِيًا فَاغْنِ وَازْدَدِ وَإِنْ يَلْتَقِ الْحَيُّ الْجَمِيعُ تُلاَقِنِي
إِلَى ذِرْوَةِ البَيْتِ الكَرِيمِ الْمُصَمَّدِ نَدَامَايَ بِيضٌ كَالنُّجُومِ وَقَيْنَةٌ
تَرُوحُ عَلَيْنَا بَيْنَ بُرْدٍ وَمَجْسَدِ رَحِيبٌ قِطَابُ الْجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ
بِجَسِّ النَّدَامَى بَضَّةُ الْمُتَجَرَّدِ إِذَا نَحْنُ قُلْنَا: أَسْمِعِينَا انْبَرَتْ لَنَا
عَلَى رِسْلِهَا مَطْرُوفَةً لَمْ تَشَدَّدِ إِذَا رَجَّعَتْ فِي صَوْتِهَا خِلْتَ صَوْتَهَا
تَجَاوُبَ آظْآرٍ عَلَى رُبَعٍ رَدِ
مما تلحظه في هذه الأبيات ورودُ ضمير المتكلم كثيرًا؛ ففي البيت الأول “لست”، و”أنا” المقدَّرة في آخر البيت، وفي البيت الثاني “تلاقني”، وفي البيت الثالث “تبغني” وتصطد”ني” المقدرة، وفي البيت الرابع “تأتني”، و”أنا” المقدَّرة بعد “أصبحك”.
وحشْدُ هذه المجموعة من ضمائر المتكلِّم يبيِّن حالة الاعتداد الذاتي عند “طرفة” بنفسه، إنه يتحدث عن نفسه بأنه لا يستخفي عن العطاء “مَتَى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أَرْفِدِ”، و”وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً”، إنه لا يستخفي كما يفعل آخرون، كذلك فهو في موطن اجتماع القوم يُظهِر أنَّه من البيت الرفيع؛ فهو في حلقة القوم عندما تنعقد للسَّمَر، أو المفاخرة، أو الشراب، كذلك إن شئت وجدته في الحوانيت مع شرب، وإذا أتيته فإنَّ كرمه لن يبخل عليك بكأس رويَّة، فتشرب معه، حتى وإن كنت ذا غنًى عنها “فاغن وازدد”.
ثم يصف صحبته “نداماي بيض كالنجوم”، وهذا هو الموطن الثالث الذي يتكلَّم فيه عن صحبته.
ثم يبدأ في وصف مجلس الشراب والجارية التي تُساقيهم وتغنِّي لهم، ثم يؤكِّد أن هذا هو حاله الذي هو مستمِرٌّ عليه، ويذكر النتيجة التي وصلت به إليها هذه الحياة اللاَّهية العابثة:
وَمَا زَالَ تَشْرَابِي الْخُمُورَ وَلَذَّتِي
وَبَيْعِي وَإِنْفَاقِي طَرِيفِي وَمُتْلَدِي إِلَى أَنْ تَحَامَتْنِي العَشِيرَةُ كُلُّهَا
وَأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ البَعِيرِ الْمُعَبَّدِ
لقد أصبح “طرفة” شِبه خليعٍ في قبيلته “تحامَتْني العشيرة كلُّها”، وهو يؤكِّد أن هذا قد حدث من الجميع بأداة التأكيد “كلها”؛ ليدلل على انفراده وعزلته عن مجتمعه، كما يُعزل الجمل الأجرب عن الجمال السَّليمة؛ حتَّى لا ينتقل إليها الجرب منه.
ولا شكَّ أن هذه الحال كانت تؤرِّق “طرفة”، ولعلها كانت السبب بعد ذلك في أنه عرف السفر والرحلة في طلب المال والثروة من خلال شعره أكثر من مرَّة، إلى أن قُتل في إحدى هذه السَّفرات.
ولكنْ “طرفة” هل كان تَحاميه من عشيرته سببًا في الرجوع عمَّا هو فيه؟ إنه لا يزداد إلا إصرارًا على موقفه؛ وذلك لأنه ينطلق من فلسفة خاصَّة، وهنا يبدأ القِسم الثاني من هذه الوحدة:
أَلاَ أَيُّهَذَا اللاَّئِمِي أَحْضُرَ الوَغَى
وَأَنْ أنهل اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي فَإِنْ كُنْتَ لاَ تَسْطِيعُ دَفْعَ مَنِيَّتِي
فَدَعْنِي أُبْادِرْهَا بِمَا مَلَكَتْ يَدِي أَرَى العَيْشَ كَنْزًا نَاقِصًا كُلَّ لَيْلَةٍ
وَمَا تَنْقُصُ الأَيَّامُ وَالدَّهْرُ يَنْفَدِ أَرَى الْمَوْتَ أَعْدَادَ النُّفُوسِ وَلاَ أَرَى
بَعِيدًا غَدًا مَا أَقْرَبَ اليَوْمَ مِنْ غَدِ وَلَوْلاَ ثَلاَثٌ هُنَّ مِنْ عِيشَةِ الفَتَى
وَجَدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي وَمِنْهُنَّ سَبْقِي العَاذِلاَتِ بِشَرْبَةٍ
كُمَيْتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالْمَاءِ تُزْبِدِ وَكَرِّي إِذَا نَادَى الْمُضَافُ مُحَنَّبًا
كَسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتَهُ الْمُتَوَرِّدِ وَتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ وَالدَّجْنُ مُعْجَبٌ
بِبَهْكَنَةٍ تَحْتَ الْخِبَاءِ الْمُعَمَّدِ كَأَنَّ البُرَيْنَ وَالدَّمَالِيجَ عُلِّقَتْ
عَلَى عُشَرٍ أَوْ خِرْوَعٍ لَمْ يُخَضَّدِ فَذَرْنِي أُرَوِّ هَامَتِي فِي حَيَاتِهَا
مَخَافَةَ شِرْبٍ فِي الْحَيَاةِ مُصَرَّدِ كَرِيمٌ يُرَوِّي نَفْسَهُ فِي حَيَاتِهِ
سَتَعْلَمُ: إِنْ مُتْنَا غَدًا أَيُّنَا الصَّدِي
إن هذه القسم يحتوي على الرُّؤية الفكرية الأساسية في معلَّقة “طرفة”، ويكاد يكون هو المِحورَ الذي تدور عليه كلُّ أفكار القصيدة، ورؤيتها الفنيَّة؛ إنه يُسائل مجادِلَه الذي قد يكون أخاه معبدًا، وقد يكون ابن عمِّه مالكًا، وقد يكون أي فرد من أفراد العشيرة التي تحامَتْه وتجنبته، إنه يسائل هؤلاء جميعًا الذين يلومونه على شهوده هذه اللذات سؤالاً أساسيًّا تتضمن الإجابة عليه مفتاح كلِّ تصرُّفاته ومَواقفه: “هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي؟”.
وما دمت لا تملك لي الخلود، ولا تستطيع أن تدفع عني الموت؛ فدَعني أواجه الموت.
فَإِنْ كُنْتَ لاَ تَسْطِيعُ دَفْعَ مَنِيَّتِي
فَدَعْنِي أُبْادِرْهَا بِمَا مَلَكَتْ يَدِي
ثم يؤكد أساس رؤيته في بيتين:
أَرَى العَيْشَ كَنْزًا نَاقِصًا كُلَّ لَيْلَةٍ
وَمَا تَنْقُصُ الأَيَّامُ وَالدَّهْرُ يَنْفَدِ أَرَى الْمَوْتَ أَعْدَادَ النُّفُوسِ وَلاَ أَرَى
بَعِيدًا غَدًا مَا أَقْرَبَ اليَوْمَ مِنْ غَدِ
ثم يؤكد أنه لا يرهب الموت؛ فليأت وقت ما يشاء، ولكن أشياء ثلاثة هي وراء احتفاله بالحياة:
وَلَوْلاَ ثَلاَثٌ هُنَّ مِنْ عِيشَةِ الفَتَى
وَجَدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي وَمِنْهُنَّ سَبْقِي العَاذِلاَتِ بِشَرْبَةٍ
كُمَيْتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالْمَاءِ تُزْبِدِ وَكَرِّي إِذَا نَادَى الْمُضَافُ مُحَنَّبًا
كَسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتَهُ الْمُتَوَرِّدِ وَتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ وَالدَّجْنُ مُعْجَبٌ
بِبَهْكَنَةٍ تَحْتَ الْخِبَاءِ الْمُعَمَّدِ كَأَنَّ البُرَيْنَ وَالدَّمَالِيجَ عُلِّقَتْ
عَلَى عُشَرٍ أَوْ خِرْوَعٍ لَمْ يُخَضَّدِ
ثم يعود إلى مخاطبة ذلك اللائم متوجِّهًا إليه بالحديث:
فَذَرْنِي أُرَوِّ هَامَتِي فِي حَيَاتِهَا
مَخَافَةَ شِرْبٍ فِي الْحَيَاةِ مُصَرَّدِ كَرِيمٌ يُرَوِّي نَفْسَهُ فِي حَيَاتِهِ
سَتَعْلَمُ: إِنْ مُتْنَا غَدًا أَيُّنَا الصَّدِي
إن حالة الإسراف في الشراب، والإقبال على اللذَّات كلها لكأنَّها تفعل فعلها في نفس “طرفة” حين تُخرِجه عن الصحو إلى السُّكر؛ فرارًا مما ينوء به من رؤيا، خلاصتها أنَّ الموت ينهي كلَّ شيء، ولقد كانت حياة الجاهلية التي كانت معتقداتها لا ترى حياةً خلف هذه الحياة، ولا تفزع بتصوُّراتها إلى عالَمٍ مثالِيٍّ أكمل وأفضل، يتمثَّل في حياة أخرى، كانت هذه الحياة من الضيق بمكان حين ينغلق كلُّ أمل للخلود، وتصبح الحياة القصيرة على الأرض هي كلَّ ما يؤمن به الجاهليُّ، فإن ضاع ضاعَ منه إذًا كلُّ شيء، من هنا كان حرص إنسان هذه الجاهلية – يمثِّله “طرفة” – على أخذ كلِّ مُتَع الحياة، واستنفاذ كلِّ ما فيها من الملذَّات.
وفي القسم الثالث من هذه الوحدة يلخِّص “طرفة” فلسفتَه، ورؤيته الفكريَّة، ونلاحظ ورودَ الفعل (أرى) في ثلاثة أبيات من هذا القسم، ثم الفعل (ترى) يُخاطب به لائِمَه في البيت الرابع، ويرد لفظ (الموت) و(المنيَّة) وتفاصيلهما: (القبر – الحَتْف – التُّراب) على مدار الأبيات كلِّها؛ ليؤكد حضور الموت بقوَّة، كدالٍّ على معاناة الشاعر منه:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ وَيَصْطَفِي
عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ أَرَى الْمَوْتَ لاَ يَرْعَى عَلَى ذِي جَلاَلَةٍ
وَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَزِيزًا بِمقْعَدِ أَرَى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخِيلٍ بِمَالِهِ
كَقَبْرِ غَوِيٍّ فِي البَطَالَةِ مُفْسِدِ تَرَى جَثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا
صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَوْتَ مَا أَخْطَأَ الفَتَى
لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِاليَدِ مَتَى مَا يَشَأْ يَوْمًا يَقُدْهُ لِحَتْفِهِ
وَمَنْ يَكُ فِي حَبْلِ الْمَنِيَّةِ يَنْقَدِ
إن الموت – باعتباره الهاجس الرئيسيَّ في المعلقة – يَظهر جليًّا من أول القصيدة، ويفسِّر كلَّ مقاطعها، ويشدُّها بحبلٍ فكري وفنِّي واحد؛ فالوقوف على الأطلال، ومعاناة الرَّحيل، وانتهاء الأنس بالدِّيار ومَن فيها، ووصف النَّاقة التي هي المعادل الموضوعيُّ للحياة، أو الرمزُ لها؛ باعتبارِها نقيض الموت، واسترسال “طرفة” فيها، ومحاولة التشبُّع من ملذَّاتِها، كما في هذا المقطع – لَم يمنع ذلك كلُّه من أن يُظهِر الموت كنهايةٍ لكلِّ ذلك، فما يفعل “طرفة” أنَّه يفلسِفُ به كلَّ مواقفِه في الحياة.
وفي الوحدة الخامسة: تتبدَّى أبعاد أكبر لمشكلة “طرفة” الاجتماعيَّة، التي سبَّبتْها له فلسفته الخاصَّة، وطريقتُه في الحياة المبنيَّة على هذه الفلسفة؛ إنَّه يعرض ما حدث بينه وبين ابن عمِّه – مالكٍ – الذي طلب منه “طرفة” على ما يبدو أن يُعِينه على حمولة أخيه “معبد” الذي أضاع “طرفة” إبِلَه التي كان يعمل فيها، فأهملها، فتفلَّتت وبددت، فألزمه أخوه “معبد” باسترجاعها، فذهب إلى ابن عمِّه يسأله أن يعينه، فلم يفعل، ويبدو أن “مالكًا” كان كبقيَّة العشيرة التي تحامَتْه، حتَّى صار خليعًا، أو كالخليع.
إن “طرفة” ينظر إلى نفسه على أنه لم يرتكب جُرْمًا، وإن كانت العشيرة كلُّها – ومنهم ابن عمه “مالك” – يرَوْن أنَّه ارتكب من الإهمال والعبَث والبطالة ما تحامته العشيرةُ لأجله.
إنَّ سياق القصيدة المتَّصل يصل إلى عقدتها الدِّرامية المتمثِّلة في صدمته في ابن عمه “مالك”، لقد فوجئ “طرفة” بالموقف، إنه يرى أنه ملتزمٌ لابن عمِّه بما وعد من الدِّفاع عنه، والوقوفِ إلى جانبه، فلماذا لا يقف معه في مشكلته، كما هو الحال مع كلِّ مَن تكون لديه مشكلةٌ من أبناء القبيلة؟ إنَّ “طرفة” رغم ما يشعر به من أنَّ العشيرة تتحاماه لم يكن قد يئس تمامًا من صِلَتهم، وعونِهم له.
كيف ييئس وهو يرى أنه غير منكور من “بني غَبْراء” أقاربِه في القبيلة، ولا من أصدقائه، ولا يشعر أبناءُ عمومتِه بِصَولته عليهم، وأنه إن جدَّ أمرٌ فإنَّه يقف بجانبهم، وحتَّى إن توعَّد فإن دأب الكرماء لإخلاف الوعيد، أمَّا الوعد فإنه منجِزُه.
كل هذا يقدِّم به “طرفة” بين يدَيْ حديثه عن مشكلته مع ابن عمِّه “مالك”:
رَأَيْتُ بَنِي غَبْرَاءَ لاَ يُنْكِرُونَنِي
وَلاَ أَهْلُ هَذَاكَ الطِّرَافِ الْمُمَدَّدِ وَلاَ يَرْهَبُ ابْنُ العَمِّ مَا عِشْتُ صَوْلَتِي
وَلاَ أَخْتَنِي مِنْ صَوْلَةِ الْمُتَهَدِّدِ وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ
لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
ثم يعرض قصَّتَه مع ابن عمِّه “مالك”:
فَمَا لِي أَرَانِي وَابْنَ عَمِّيَ مَالِكًا
مَتَى أَدْنُ مِنْهُ يَنْأَ عَنِّي وَيَبْعُدِ يَلُومُ وَمَا أَدْرِي عَلاَمَ يَلُومُنِي
كَمَا لاَمَنِي فِي الْحَيِّ قُرْطُ بْنُ أَعْبَدِ عَلَى غَيْرِ شيءٍ قُلْتُهُ غَيْرَ أَنَّنِي
نَشَدْتُ فَلَمْ أُغْفِلْ حُمُولَةِ مَعْبَدِ بِلاَ حَدَثٍ أَحْدَثْتُهُ وَكَمُحْدِثٍ
هِجَائِي وَقَذْفِي بِالشَّكَاةِ وَمُطْرِدِي وَأَيْأَسَنِي مِنْ كُلِّ خَيْرٍ طَلَبْتُهُ
كَأَنَّا وَضَعْنَاهُ إِلَى رَمْسِ مُلْحَدِ وَلاَ خَيْرَ فِي خَيْرٍ تَرَى الشَّرَّ دُونَهُ
وَلاَ نَائِلٍ يَأْتِيكَ بَعْدَ التَّلَدُّدِ
وبعد أنْ عرض المشكلة يبيِّن خصاله في التعامل مع أبناء العمومة وذوي القرابة؛ لقد سعى إلى كلِّ ما يقوِّي روابط القرابة، وحين تُواجه العائلةُ أمورًا صعبة فإنَّه لا يتراجع كما يتراجع الآخرون، بل يتقدَّم لتأدية الواجب، حتَّى إذا هاجم الأعداءُ قومَه فإنه يبذل كلَّ جهده لصدِّهم، وأما إن كان الموطِنُ موطِنَ دفاعٍ عن العِرض، فإنه يهون في سبيله كلُّ شيء حتَّى يصل الأمرُ إلى حمل السلاح؛ دفاعًا عن هذا العِرض فلا ينثَلِم.
ومع ذلك كان صنيع ابن عمه معه على غير ما يتوقَّع؛ إنه لم يفرِّج كربَه ولو بكلمةٍ تصبِّره إلى الغد، بل راح – بكلِّ ما يَملك – يخنقه خنقًا، حتى لو قدَّم له “طرفة” كلمة شكر لم يَقبلها، ثم يعلِّق على ذلك بإطلاق حكمةٍ من حِكَمِه:
وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً
عَلَى النَّفْسِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ
ثم يخرج من رحلته مع هذا الصراع مع ابن عمه بالحكمة المتمثلة في قوله:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَنْفَعْ بِوُدِّكَ أَهْلَهُ
وَلَمْ تَنْكَ بِالبُؤْسَى عَدُوَّكَ فَابْعَدِ فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ خَالِدٍ
وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ فَأَصْبَحْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَزَارَنِي
بَنُونَ كِرَامٌ سَادَةٌ لِمُسَوَّدِ
وإزاء هذا الوضع الاجتماعي السيِّئ الذي وجد “طرفةُ” نفسَه فيه نجِده في الوحدة السادسة يأخذ في الفخر بنفسه، مصرًّا على مواقفه، مصرًّا على فعاله، وخصوصًا في موطن الحرب وموطن الكرَم الذي يبدو في نَحْره النُّوقَ، حتَّى لقد صارت تعرفه بهذا الفعل، فهي تخافه وتخشاه، وحتى يقول الناس له: إنَّك تتجاوز الحدود، وتتسبَّب في الخسائر الفادحة حين توغِلُ في الشراب، وتَخرج عن وعيك، وتقوم بِعَقر النِّياق، وليس ذلك من حقِّك.
إن “طرفة” يفخر غيْرَ مبالٍ بالشيء الذي سبَّب له هذه القطيعة الاجتماعيَّة في قومه، وهو على ذلك غيرُ مبالٍ بِمَوقف قومه منه.
ثم يَستحضر صورةً كاملة لما ترتَّب على فعله في ذبح النُّوق الشاردة من أنَّ الإماء راحوا يَشْوون لحمَها على الجمر، ويأكلون منها، وهو ما يؤكِّد كرمَه، إلا أنَّ قومه يرون أنه يفخر بِكَرمه من مالِ غيره؛ ولذا فقد استحكمت الأزمة الاجتماعيَّة مع قومِه.
ثم يصف معركةً من المعارك التي شارك فيها حين اشتدَّ الزحام، وعلا التهديد، وإذا هو يحمي مأوى النِّساء حيث تدور أعنفُ المعارك؛ دفاعًا عنهن، ويرفرف الموت فلا يَخشاه.
ثم يفخر بِمُشاركته في لعب الميسر، إن “طرفة” الذي استفرغ وُسْعَه في اللذَّة والمحامد كما يراها هو، وكما يتصورها هو، يزيد في مساحة الابتعاد النفسيِّ والاجتماعيِّ بينه وبين قومه، وخصوصًا أقاربه الأدنَيْن مما أحكمَ من عُقدته الاجتماعيَّة، وتفرُّدِه، حتَّى صار كما يقول هو في موطنٍ سابق من القصيدة:
وَأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ البَعِيرِ الْمُعَبَّدِ
إن القبيلة – كما هو واضحٌ من موقفها من “طرفة” – لا تعذره، حتَّى وإن كان صاحِبَ فلسفة خاصَّة يراها جديرةً بالتقدير والاحترام، وتظلُّ تقاليد القبيلة أهمَّ لديها من كونه شاعرًا؛ لأنه لم يُصبِح لسانَ القبيلة المدافِعَ عن قِيَمِها وتقاليدها بِقَدْر ما هو شاعِرُ نفسِه، لقد امتلأ شعرُه بفلسفته الخاصة، وبمواقفه التي تنأى به عن احترام أفراد القبيلة له، إن تقدير القبيلة لمن يَنبغ منها من الشُّعراء إنما هو مرتبِطٌ بكونه لسانًا لها معبِّرًا عن قيمها، ملتزِمًا بهذه القيم.
لقد كان “طرفة” لسانَ نفْسِه، لا لسانَ قبيلتِه؛ الأمر الذي وجدنا مثيلاً له في حالة “امرئ القيس”، إنَّ أباه كان يأنف أن يكون ابنُه – وهو ابن الملك – شاعرًا من الشُّعراء؛ ولذا فقد طرده، حتَّى هام “امرؤ القيس” وراء لذَّته وعبَثِه بين أحياء العرب، باحثًا عن تلك اللذَّة الخاصة في مغامراته ومُجونه.
و”طرفة” كذلك يترك قومه أكثر من مرة، ولكنه ليس له من المال ما لـ”امرئ القيس” الذي لا شك أنَّ في مال أبيه ما يُنفق منه على لذَّته، لقد ذهب “طرفة” إلى “عمرو بن هند”؛ علَّه يجد ما يُغْنيه عن قومه، وكان من الممكن أن يصبح صعلوكًا ينقلب تمامًا على تقاليد القبيلة كبقية الصعاليك الذين تمردوا على قبائلهم وتقاليدها، وعاشوا في أطواء الصحراء للسَّلب والنهب، إلا أن “طرفة” على ما يبدو كان ما يزال يرى – رغم إفراده إفراد البعير المعبَّد – أنَّ قبيلته حِصنُه ومأواه الأخير.
إن “طرفة” يَخْلص في الوحدة السابعة من القصيدة – الأخيرة – لحِكمة من نوع خاص؛ حكمةٍ أساسُها عدم القدرة على تفسير لغز الموت؛ فهو يصوِّر عجزه أمام المستقبل وأمام الموت، وينتهي إلى الجرأة والترفُّع عن السماع لِنُصح من ينصحه:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَوَاجِلٌ
أَفِي اليَوْمِ إِقْدَامُ الْمَنِيَّةِ أَمْ غَدِ فَإِنْ تَكُ خَلْفِي لاَ يَفُتْهَا سَوَادِيَا
وَإِنْ تَكُ قُدَّامِي أَجِدْهَا بِمَرْصَدِ فَإِنْ مِتُّ فَانْعَيْنِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ
وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ وَلاَ تَجْعَلِينِي كَامْرِئٍ لَيْسَ هَمُّهُ
كَهَمِّي وَلاَ يُغْنِي غَنَائِي وَمَشْهَدِي بَطِيءٍ عَنِ الْجُلَّى سَرِيعٍ إِلَى الْخَنَا
ذَلُولٍ بِأَجْمَاعِ الرِّجَالِ مُلَهَّدِ لَعَمْرُك مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ
نَهَارِي وَلاَ لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ فَلَوْ كُنْتُ وَغْلاً فِي الرِّجَالِ لَضَرَّنِي
عَدَاوَةُ ذِي الأَصْحَابِ وَالْمُتَوَحَّدِ وَلَكِنْ نَفَى عَنِّي الرِّجَالُ جَرَاءَتِي
عَلَيْهِمْ وَإِقْدَامِي وَصِدْقِي وَمَحْتِدِي
إنه يصور الموت/ المنِيَّة تصويرًا حسِّيًّا، فيراها خلفه وأمامه، يراها خلفه تطلبه، ولن يفوتها سواده وشخصه، كما أنَّها إذا كانت أمامه فإنَّها ترصده؛ ولذا فهو يطلب من ابنة أخيه “معبد” أن تَنْعاه بما هو أهله من المحامد؛ حتى لا يكون موتُه مثل موت مَن ليس هَمُّه كهمِّه، ولا يغني غناءه في المفاخر والمحامد.
إن “طرفة” يدرك موقفه تمامًا، ويدافع عنه بكلِّ قوَّته، ولذا فإنه لا يضرُّه – كما يرى – عداوةُ مَن يعاديه، وحَسْبُه في ذلك جراءتُه وإقدامه، وصدقُه وكرم أصلِه.
ثم يفرغ في آخر الأبيات التي يختم بها المطوَّلة للحكمة الخالصة:
لَعَمْرُكَ مَا الأَيَّامُ إِلاَّ مُعَارَةٌ
فَمَا اسْطَعْتَ مِنْ مَعْرُوفِهَا فَتَزَوَّدِ سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً
وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تَبِعْ لَهُ
بَتَاتًا وَلَمْ تَضْرِبْ لَهُ وَقْتَ مَوْعِدِ عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ
فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي
إن معلقة “طرفة” نموذجٌ من الشِّعر الجاهلي يتَّضح فيه خصائصُ هذا الشِّعر الفنيَّة، وقضاياه الفكرية، إنَّها من الناحية الفكريَّة تقدِّم تصوُّرًا للكون والحياة، والإنسان، يؤمن به، ويعيش من خلاله قسمٌ كبير من إنسان الجاهليَّة الذي شغلَتْه القضايا الكبرى، كالموت والحياة وما وراءهما، ولم يجد بين يديه سنًا يهديه، أو منهجًا ينتشله من تصوُّرات تقوم على أن هذه الحياة لا حياة بعدها، ولا مجال للخلود فيما وراءها؛ ولذا فإن “طرفة” – بتأمُّله الحادِّ – يرى بناء على ذلك عددًا من الآراء:
1- لَعَمْرُكَ مَا الأَيَّامُ إِلاَّ مُعَارَةٌ
فَمَا اسْطَعْتَ مِنْ مَعْرُوفِهَا فَتَزَوَّدِ 2- أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ وَيَصْطَفِي
عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ 3- أَرَى الْمَوْتَ لاَ يَرْعَى عَلَى ذِي جَلاَلَةٍ
وَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَزِيزًا بِمقْعَدِ 4- لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَوْتَ مَا أَخْطَأَ الفَتَى
لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِاليَدِ 5- مَتَى مَا يَشَأْ يَوْمًا يَقُدْهُ لِحَتْفِهِ
وَمَنْ يَكُ فِي حَبْلِ الْمَنِيَّةِ يَنْقَدِ
وغير ذلك من الآراء المتناثرة هنا وهناك في القصيدة.
وهكذا يمضي “طرفة” يعدِّد آراءه حول الموت، ويَبني على هذا الرَّأي موقفًا من الحياة يتمثَّل في:
1- إِذَا ابْتَدَرَ القَوْمُ السِّلاَحَ وَجَدْتَنِي
مَنِيعًا إِذَا ابْتَلَّتْ بِقَائِمِهِ يَدِي 2- إِذَا أَنْتَ لَمْ تَنْفَعْ بِوُدِّكَ أَهْلَهُ
وَلَمْ تَنْكَ بِالبُؤْسَى عَدُوَّكَ فَابْعَدِ 3- وَلاَ خَيْرَ فِي خَيْرٍ تَرَى الشَّرَّ دُونَهُ
وَلاَ نَائِلٍ يَأْتِيكَ بَعْدَ التَّلَدُّدِ 4- فَذَرْنِي أُرَوِّ هَامَتِي فِي حَيَاتِهَا
مَخَافَةَ شِرْبٍ فِي الْحَيَاةِ مُصَرَّدِ 5- فَإِنْ كُنْتَ لاَ تَسْطِيعُ دَفْعَ مَنِيَّتِي
فَدَعْنِي أُبْادِرْهَا بِمَا مَلَكَتْ يَدِي
إنَّ لديه تصوُّرًا للحياة والموت، ولديه كذلك رؤية عمليَّة لتطبيقها في الحياة؛ بناءً على هذا التصور، ومن هنا تتضامُّ أجزاء القصيدة لتؤكِّد وحدة الرؤيا المتمثِّلة في الموقف من الحياة والموت، كما تؤكِّد وحدة البناء اللُّغوي حتى مع تقسيمها إلى أغراض تتناولها الوحدات المختلفة للمطوَّلة.
وبرغم الروايات المتعددة للقصيدة، والتي جاءت بأبيات معيَّنةٍ منها في أكثرَ من موطن من مواطنها، وخصوصًا في الوحدات الأخيرة؛ فإنَّ بساطة الحياة في الجاهليَّة، وعدم تعقُّدِها – كما هو الحال في الواقع المعاصر – جعل المطوَّلة تحتوي على عدَّة أغراض، وهي سمةٌ من سمات القصيدة الجاهليَّة عمومًا، لا تنفي وحدة الجوِّ النَّفسي، ووحدة البناء الكُلِّي للقصيدة.
كذلك تصوِّر القصيدة رؤية “طرفة” للحياة، وانهماكه فيها، ونشْدَانه المثل الكامل منها؛ وذلك من خلال نظرته إلى النَّاقة التي هي جلُّ المال في المُجتمع الصحراويِّ البدوي، حتى لتصبح الناقة – من خلال وصفها في القصيدة، وعلى امتداد ثلث القصيدة تقريبًا – رمزًا للحياة، ومعادلاً لها.
إنَّ “طرفة” يصوِّر الناقة تصويرًا تفصيليًّا، ويصفها – في اكتمال بنيانها الجسديِّ، ونموذجيَّة صفاتها المعنويَّة – وصفًا يشبع رغبته في الحياة، وإقباله عليها، وتشوُّفه للتمتُّع بكل ما فيها من القوة، فالناقة في خواصِّها وصفتها، وفي أرجلها وعينيها، ورأسها وأذنيها… تمثِّل تمام اكتمال القوة، كما أنَّها في سيرها وحركتها تُمثِّل تمامَ اكتمال الحركة؛ فالقوة والحركة تمثِّلان أهمَّ خصائص ناقة “طرفة” التي ضربها مثالاً، ورمزًا للحياة التي يريد أن يتمتَّع بها.
إن الناقة هي مال الصحراويِّ، وأساسُ بقائه، وعماد وُجوده، و”طرفة” واحدٌ من قومه، يرى فيها كلَّ هذه الصفات، ولذا فقد أطال في وصفها، حتَّى إننا لا نجد وصفًا في الشعر الجاهلي للناقة بِمِثل الوصف المطوَّل المفصَّل القويِّ الذي وصف به “طرفة” ناقتَه، حتَّى صارت ناقة “طرفة” في الشِّعر – ولعلَّها كانت كذلك في الحياة – هي الناقةَ المثال.
إنَّ وصفه لها يروي ظمَأه لوصف الحياة، والإغراق فيها وفي مُتَعِها بكل ما يملك من قوة.
بقي أن نعرض إجمالاً للصُّورة الشِّعرية في المطوَّلة، والتي تمثل نموذجًا للصورة في الشعر الجاهلي، والتي تُنتَزع من البيئة التي يعيش فيها الشاعر.
يقول “طرفة” مبيِّنًا انفراده عن قومه بعد أن تحامَتْه العشيرة؛ لِلَهْوه ومُجونه، وعدم اكتراثه:
إِلَى أَنْ تَحَامَتْنِي العَشِيرَةُ كُلُّهَا
وَأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ البَعِيرِ الْمُعَبَّدِ
إنه يصف الحالة التي صار إليها مشبِّهًا إيَّاها بحال الجمل الذي أصابه المرض (الجرب)، وخشي صاحبه أن تنتقل عدواه إلى بقية الجمال، فقام بإفراده بعيدًا عن بقية الجمال؛ حتى لا تنتقل عدواه إلى غيره، ويفسد عليه بقية ماله.
إن “طرفة” أصبح في نظر القبيلة مريضًا مرَضًا لا تتحمَّلُ القبيلة – مع هذا المرض – وجودَه بينها، ولقد كان الصَّعاليك عندما يخلفون هكذا من قبائلهم يردُّون على ذلك بالتمرُّد على القبيلة تمامًا، والانضمام إلى بقيَّة الصعاليك؛ لكي يقوموا بضرب مصالح القبائل التي تُصبح مادَّةَ السَّلب والنهب الذي يقومون به.
والصُّورة في البيت – كما نرى – مستمدَّة من بيئة البادية، وتمثِّل نوعًا من الصدق الفنِّي في رسم الصورة، إلا أنَّ “طرفة” وكما توحي الصُّورة يَستسلم لموقف قبيلته منه، كما يستسلم الجمل الأجربُ لإفراده عن بقيَّة الجمال، ويعيش حياة التفرُّد بكل ما تَعْنيه من آلام نفسيَّة، وقطيعة اجتماعيَّة.
صورة ثانية من صُوَر المعلَّقة، وهي تصويره للمنيَّة/ الموت في إقدامها على الإنسان:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَوَاجِلٌ
أَفِي اليَوْمِ إِقْدَامُ الْمَنِيَّةِ أَمْ غَدِ فَإِنْ تَكُ خَلْفِي لاَ يَفُتْهَا سَوَادِيَا
وَإِنْ تَكُ قُدَّامِي أَجِدْهَا بِمَرْصَدِ
إنه يصوِّر الموت بالشَّخص المُخاتل لحركة فريستِه في جوِّ الصحراء، إنَّ الفريسة وهي تتحرَّك تَجِد ذلك الصائد المخاتل من خلف، فلا يفوته سوادها (سواد الفريسة)، وتجده من أمام، فهو يترصَّدها؛ ليقضي عليها.
إنَّها صورة تمتلئ بالحركة، وتُمثِّل جوَّ الصراع مع الموت الذي غالبًا ما يقع في المجتمع الصحراويِّ بصورة القتل في جو يشيع فيه الفتك/ فتك الإنسان بالإنسان والحيوان، وفتك الحيوان بالحيوان، وهذه الصُّورة يُطلِق عليها البلاغيُّون مصطلحَ الاستعارة التمثيليَّة التي يتمُّ فيها تمثيلُ حالٍ بحال، ووضع بوضع، وحركةٍ بحركة، ولا تقف الصورة هنا عند نموذج الاستعارة المكنيَّة التي تنقل صورة المشبَّه به، الساكن، ذي الوجه الواحد، إلى المشبَّه في سكونه ووحدته.
إن “طرفة” يصوِّر حالاً معنويَّة – هي موته، أو هجوم المنيَّة عليه – بصورةٍ حسِّية، كثيرًا ما تتكرَّر في جو الصحراء المليء بالفتك والفاتكين، وهي صورة تمتلئ بالحركة والتوتُّر، أما الحركة فتأتي من صورة المُطاردة عبر الصحراء في جو ليليٍّ قاتم، يوحي بها لفظ (سوادي: اللفظ يوحي بأن المطاردة تتمُّ ليلاً)، وذلك من الأمام أو من الخلف، فهو مُحاصَر من الناحيتين.
وأما التوتُّر فيأتي من الصورة الكلِّية للمطاردة عبر الصحراء.
صورة ثالثة تأتي في مقدِّمة المطوَّلة، وهي صورة رحيل هوادج صاحبتِه/ المالكيَّة:
كَأَنَّ حُدُوجَ الْمَالِكَيَّةِ غُدْوَةً
خَلاَيَا سَفِينٍ بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَدِ عَدَوْلِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِينِ ابْنِ يَامِنٍ
يَجُورُ بِهَا الْمَلاَّحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي يَشُقُّ حَبَابَ الْمَاءِ حَيْزُومُهَا بِهَا
كَمَا قَسَمَ التُّرْبَ الْمُفَايِلُ بِاليَدِ
إنَّه يصور حركة الهوادج في الصحراء بحركة السَّفين المتحرِّكة، تشقُّ عباب الماء، ويسترسل في وصف هذه السُّفن فيقول:
عَدَوْلِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِينِ ابْنِ يَامِنٍ
يَجُورُ بِهَا الْمَلاَّحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي
إنه ينتقل من تشبيه حركة الهوادج بالسُّفن، إلى استحضار صورةٍ معيَّنة للسفن، ثم يصوِّر حركة الملاَّح:
يَجُورُ بِهَا الْمَلاَّحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي
بل إنه يمتدُّ بصورته ليصوِّر حركة السفن وهي تشقُّ عباب الماء، ثم يعود ليصور حركة شق الماء التي هي جزء من الصورة بأنَّها:
كَمَا قَسَمَ التُّرْبَ الْمُفَايِلُ بِاليَدِ
إن صورة “طرفة” هي صورة ممتدَّة، يسلِّم كلُّ جزء من الصُّورة إلى الجزء التالي.
الصورة إذًا هنا صورة ممتدَّة، تؤكِّد اتِّساع قدرة التَّخْييل والمخيلة لدى الشاعر، الذي يراكم أجزاء الصُّورة بعضها فوق بعض، وُصولاً لتصوير الحركة تصويرًا كاملاً؛ حركة الهوادج/ المشبه من جانب، وحركة السفين/ المشبه به من جانبٍ آخر، والصُّورة تنقل الحركة النَّفسية للشاعر؛ حيث يبدو في حركة السفين نوعٌ من التوتُّر يلقيها ظلُّ قول الشاعر:
يَجُورُ بِهَا الْمَلاَّحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي
إنَّ صورة الجو النفسي عند “طرفة” لدى لحظة الوداع ينبثق واضحًا من حركة الملاَّح الذي لا يستقر على حالٍ (يجور – يهتدي) إنَّه موزَّع بين هذين الحالين؛ فهو طورًا يجور في حركته، وطورًا يهتدي، وبين هذين الحالين تتذَبْذب النفس وتتوتَّر.
صورة رابعة هي صورة وجه المحبوبة/ وجه الظبية، يقول الشاعر:
وَوَجْهٍ كَأَنَّ الشَّمْسَ أَلْقَتْ رِدَاءَهَا
عَلَيْهِ نَقِيُّ اللَّوْنِ لَمْ يَتَخَدَّدِ
إنَّه يصوِّر وجه المحبوبة، مستخدِمًا أداة التشبيه “كأن”، ولكنَّه لا يأتي بالمشبَّه به شيئًا واحدًا، وإنما يصور الوجه بأن الشَّمس ألقت رداءها عليه، فالشمس أوَّلاً لها رداء، ثم إنها ثانيًا ألقت هذا الرداء على هذا الوجه، وهي صورة مركَّبة؛ فالوجه في طلاوته ونقاوته كأنَّ الشمس ألقَتْ عليه رداءها/ ملامِحَها، فصار نقيَّ اللون، أو الرداء نفسه عندما ألقي إنَّما أُلقي نقيَّ اللون، وهو ما يدلُّ على نقاوة وبياضِ واستنارة هذا الوجه الذي لا أثر فيه للتجاعيد والتشقُّقات؛ “لم يتخدَّد” كما في بعض الوجوه.
صورة خامسة يصور فيها “طرفة” تَساوي الجميع في الموت، وهي صورة تنطلق من رُؤْياه الفلسفيَّة التي ألْمَحنا إليها في الحياة والموت:
أَرَى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخِيلٍ بِمَالِهِ
كَقَبْرِ غَوِيٍّ فِي البَطَالَةِ مُفْسِدِ تَرَى جَثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا
صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ
إنَّه يدلِّل بهذه الصُّورة على صحَّة موقفه، ورؤياه للحياة والموت؛ حيث يتساوى – في نظر “طرفة” – الناسُ جميعًا في الموت؛ فلا فرق بين البشر؛ فالذي يبخل بماله، والذي كان يُسْرِف ويبذِّر في الملذَّات والشهوات قد تساويا – في نظره – في التُّراب، والدلالة على ذلك قبراهما:
تَرَى جَثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا
صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ
هذا ما يراه “طرفة” ظاهرًا في واقع الأمر، والصورة تدلُّ على رؤية مادِّية جامدة للموت، تنطلق من التصوُّر العامِّ للكون والحياة والإنسان عند غالب الجاهليِّين، إلاَّ قليلاً منهم، مثل: “زهير بن أبي سُلْمى” الذي لا يرى نفس هذه الصورة الصمَّاء الجامدة للموت؛ إنَّ “زُهيرًا” يرى أنَّ بَعد الموت حياة أخرى.
يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ
لِيَوْمِ الْحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ
إن “زهيرًا” – كما هو واضح من هذا البيت وأبياتٍ أخرى في معلَّقته – يؤمن بحياةٍ أخرى بعد هذه الحياة، يتمُّ فيها الحساب والجزاء؛ الأمر الذي لا نجده عند “طرفة” من خلال هذه الأبيات في المعلَّقة، وغيرها.
صورة أخيرة نَخْتم بها كلامنا حول الصُّورة الشعرية في معلَّقة “طرفة”:
لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَوْتَ مَا أَخْطَأَ الفَتَى
لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِاليَدِ مَتَى مَا يَشَأْ يَوْمًا يَقُدْهُ لِحَتْفِهِ
وَمَنْ يَكُ فِي حَبْلِ الْمَنِيَّةِ يَنْقَدِ
يشبِّه “طرفةُ” الموتَ – في حالة عدم مجيئه – بحبلِ الدابة الذي يمسك به صاحبُها، إنَّه وإن أرخاه أحيانًا فإن ذلك لا يَعني أن يَغْفل عنه، وهو يصوِّر هنا حالين بحالين:
1 – (الموت ما أخطأ الفتى)/ المشبه، (الطِّوَل المرخى وثنياه باليد)/ المشبَّه به.
2 – الموت في حال مجيئه/ المشبه، (متى ما يشأ يومًا يقده لحتفه) حالة جذب الحبل والتحكُّم به في عنق الدابَّة/ المشبه به.
وما نلاحظه في الصورة هو التَّراخي، ورُبَّما السُّكون في الحالة الأولى، ثم الحركة في الصُّورة الثانية.
ثم يصوِّر في إجمالٍ حالَ الإنسان بالدابَّة الرهينة في حبل صاحبها
وَمَنْ يَكُ فِي حَبْلِ الْمَنِيَّةِ يَنْقَدِ
إن الصُّورة في هذين البيتين مبنيَّة على التشبيه التمثيليِّ.
لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِاليَدِ
ثم نُلاحظ عنصُرَي الامتداد والحركة واضِحَيْن في التركيب الكُلِّي للصورة، يأتي الامتدادُ من تركيب صورةٍ على أخرى، وتوليدها منها كما نلحظ عنصر الحركة مِن:
مَتَى مَا يَشَأْ يَوْمًا يَقُدْهُ لِحَتْفِهِ
ومِن:
وَمَنْ يَكُ فِي حَبْلِ الْمَنِيَّةِ يَنْقَدِ
كما تتبدَّى الحركة من استعمال الأفعال والجُمل الفعليَّة في تصوير حركة الموت وهجومه على الإنسان، وانقيادِ الإنسان مذعِنًا لمشيئة الموت، كما تنقاد الدابَّة لصاحبها وهو يجذِبُها بحبله.
وهكذا تتَّضح في الصورة الشعرية عند “طرفة” عدَّةُ عناصر، هي:
1 – الاعتماد على الاستعارة التمثيليَّة والتشبيه التمثيليِّ أساسًا لعملية التخييل والتصوير،وهو ما يومئ إلى عناصر أخرى، منها الحركة والامتداد، والتركيب والتوتُّر.
2 – تتبدَّى عناصر الحركة والتوتُّر والامتداد والتركيب في إضافة عناصر أخرى للصُّورة الأساسية الأولى؛ مِمَّا يجعلها صورة مركَّبة من عدَّة صور، وليس صورة واحدة مجرَّدة.
3 – تأتي الصُّورة متحرِّكة، وفي سبيل ذلك يعمد “طرفة” إلى استعمال الأفعال، وأحيانًا الأفعال المتلاحقة لتأكيد عنصر الحركة.
4 – شَحْن الصُّورة بمجموعة من الظِّلال النَّفسية التي تنتج عن الحركة والامتداد والتَّركيب تملأ الصُّورة بالتوتُّر والتأثي الذي يُلقي ظلاله بقوَّة في نفس القارئ والسَّامع.
إن معلَّقة “طرفة” نموذج فذٌّ من نَماذج الشعر الجاهلي، يرسم ملامح هذا الشِّعر، ويطرح – بقوَّةٍ – قضاياه وظواهِرَه الفكريَّة والفنية، وينطوي على رؤية خاصَّة للكون والحياة والإنسان.
المصدر: الالوكة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!