قصاصة سرية من دفتر يوميات فتاة متمردة – سناء جعفر

كيف يصبح الإنسان متمرداً على كل ما حوله ومن حوله ؟؟ هل التمرد صفة تولد معنا وتظل كامنة فينا حتى تأتى الظروف التي تفجرها ؟؟ أم هي صفة مكتسبة من بيئتنا التي نعيش فيها ونتعامل بها لرفض واقع نرفضه ونجبر عليه ؟؟
بدأ تمردي منذ سن السابعة .. ربما تندهشون لأنني كتبت السابعة وليس السابعة عشرة .. لكنها الحقيقة فعندما وصلت تلك السن كان الصراع الدائر بين أمي وأبي بشأني قد وصل مداه .. وكي لا أشوش تفكيركم سوف أقص عليكم خلفية الأطراف كلها حتى تكتمل الصورة في خيالكم …
أبي السوداني الأصل يحمل الهوية الهولندية منذ عام 1986م بعد أن أتى طالباً اللجوء إلى بلد أمي قبلها بسنة .. أمي الهولندية بأصول فرنسية وألمانية كانت تعمل في مكتب شئون اللاجئين وكلفت بمتابعة ملفات السودانيين ..
تدريجيا وقعت في غرام هذا الأفريقي الأسمر الذي يحمل نداء الغابة في عينيه وتحفز النمر في حركات جسده .. وغموض آسر في صوته وكأنه آت من عالم آخر يبدو بعيداً بالنسبة لهذه المخلوقة الشاحبة من شدة البياض مع شعر أشقر ذهبي وعينان بلون العشب الأخضر .. سحرها هذا البدائي العملاق .. وقبل أن تبت الحكومة في قبول أو رفض طلبه .. أعطته أمي حق اللجوء الى قلبها فمنحته الإقامة والجواز الهولندي …
في بداية عام 1987م .. أتيت أنا إلى الوجود .. طفلة ساحرة تحمل لون كوب من الحليب أضيفت إليه قطرات من القهوة السوداء .. تجلت غرابة شكلي منذ اللحظة التي فتحت فيها عيني الكبيرتين لتشع وسط وجهي البرونزي ببريق يحمل لون السماء الصافية ففرحت به أمي لانه يذكرها بجدتها الألمانية ..
كان هناك زغب بني ناعم تتخلله خصلات ذهبية يملا رأسي المستدير .. حملت اسم ياسمين .. فهو اسم عربي ويحبه الغرب .. سيكون مألوفا وسهل النطق .. نشأت في منزل ملئ بالحب والاستقرار .. وبعد وصول آخى الصغير عندما بلغت الثالثة من عمري بدأت بذرة الخلافات بين الزوجين المحبين .. أرادت أمي اسماً لا يجعل من أخي أضحوكة بين أقرانه ولا يعرضه لعنصرية الوسط الذي سيعيش فيه عندما يكبر .. أراد أبي اسماً يثبت به عروبته التي تخلى عنها بمحض إرادته .. واسلامه الذي تمسك به برغم محاولات أمي المستميتة لجعله ينساه …
استخدمت أمي سلاح الدموع والمقاطعة لفرض إرادتها .. وهما سلاح فعال للتأثير في قلب رجل محب .. فحمل آخي اسم مزدوج مايكل محمد .. وخلال فترة قصيرة كانت أمي قد طمست الاسم الثاني واصبح أخي مايكل فقط …
كان أبى رجلا حنونا .. ذكياً .. مرحاً .. برغم كل شئ يحمل ولاء لا حدود له لوطنه الأول اعتاد أن يجلسني في ركبتيه كل مساء ويحكي لي قصصاً عن السودان وباللهجة السودانية الدارجية .. فنشأت وأنا اعرف الكثير عن بلد أبى .. أسماء جدي وجدتي .. أعمامي وعماتي أسماء أبناءهم … كانت هذه الحكايات هي قصصي المفضلة لما قبل النوم كل ليلة .. وعندما أصبحت في الخامسة حفظت عن ظهر قلب خريطة السودان بأسماء المدن والأنهار .. وكنت ارسم الطريق بإصبعي الصغير إلى مدينة أبو حمد مسقط راس أبي ..
لم يكن هذا الأمر يروق لامي فحاولت منع أبي من غرس هذه المعلومات في رأسي .. لكنها لم تفلح لان الصغيرة المفتونة بابيها وقصصه كانت تطلب المزيد .. أتى رد فعل أمي مباشرا وصريحاً .. تركتني لابي وجعلت مايكل عالمها الخاص الذي لا ينافسها فيه أحد .. خصوصا وانه ورث عنها بياضها الشاحب .. شعرها الذهبي .. والعيون بلون العشب … بمرور الوقت أضحى بيتنا معسكر مقسوم بحدود غير مرئية .. وقّع أبي وامي اتفاق ضمني بان لا يتعدى احدهما منطقة الآخر ..
ظلت امي ترفض بشدة محاولات ابي تلقيني تعاليم الدين الاسلامي .. كانت تطالب بان اعطى حق الاختيار لاتباع دينه او دينها عندا اصل السن التي تتيح لي المعرفة والاختيار .. اصر ابي على موقفه .. واصرت امي .. وبدات حرب معلنة بين الطرفين انحاز فيها مايكل تلقائيا لامي .. وكنت انا حزينة وخائفة ومرتبكة مما يحدث .. وصلت الخلافات ذروتها عند بلوغي الصف الثالث الابتدائي كنت حينها في السابعة .. ووقتها بدا تمردي …
في ليلة ارتفع فيها صراخ ابي وعويل امي .. نزلت من غرفتي الى غرفتهما في الطابق الارضي .. فتحت الباب دون ان اقرعه وقفت بهدؤ اتطلع الى نظراتهما المندهشة من تصرفي .. واخبرتهما بقراري .. انا لن اتبع ديانة أي منهما .. لقد قررت ان اكون لادينية حتى يكفا عن الجدال بشاني .. واذا  استمرت حربهما سوف اخبر الاخصائية الاجتماعية في مدرستي عن عدم ارتياحي في منزلي .. كان تهديدي فعالا .. فهما يدركان معنى ان اخبر سلطة رسمية عن حربهما المتواصلة وقد يصل الامر الى اخذي منهما ووضعي تحت حماية الدولة .. بعدها كمم الخوف الافواه .. اختفت الخلافات .. واختفت معها ايضا الرابطة الحميمة التي كانت تجمعني بابي .. لكنه ما زال مصرا على اجراء أي حوار بيننا باللهجة السودانية التي رفضها مايكل بشدة .. كما رفض اسم محمد قبلها ..
في العاشرة من عمري كنت اجمل طفلة في المنطقة .. امتزاج جينات ابي وامي افرز خليطا مثيرا للانتباه .. وقتها عرفت معنى ان يكون لي صديق خاص ( بوي فريند ) اصبتكم بالدهشة مرة اخرى ؟؟ لا تندهشوا فهذا شئ متعارف عليه في بلدي لكنه كان نقطة خلاف جديدة بين ابي المعارض لنشوء علاقة مع الاولاد في هذه السن المبكرة حتى لو كانت بريئة وامي المؤيدة للامر وترى انه تطور طبيعي في شخصيتي وخطوة ضرورية تمهد لانتقالي من مرحلة الطفولة الى مرحلة المراهقة .. وتمردت عليهما معا.. اتخذت صديقا تمردا على تحفظات ابي .. وكان عربيا مسلما تمردا على رغبات امي .. وجن جنونهما معا ولكن لاسباب مختلفة …
اتسعت الهوة بين افراد عائلتي ..اصبح ما يربطنا فقط عنوان المنزل المشترك .. عندما وصلت الرابعة عشرة بدات امي تفكر بالطلاق .. اخبرت ابي برغبتها فرفض بشدة خوفا من فقداني انا تحديدا لان مايكل وقتها كان قد قطع شوطا طويلا في طريق الضياع .. في الحادية عشرة من عمره اصبح صبيا عصبيا وقحا وعنيفا … حلق شعر راسه ووشم الصليب المعقوف على ذراعه .. كان يكره ابي بسبب لونه ودينه واصوله العرقية .. ويكره امي لانها تزوجت بابي .. ويكرهني لاني احمل ملامحهما معا ..
في السادسة عشرة رفعت امي دعوى طلاق امام المحكمة .. ورفعت انا عن نفسي عبء العذرية التي لازمتني طيلة حياتي السابقة .. منحتها عن طيب خاطر الى سامي صديقي العربي المسلم الهجين الذي كان يكبرني بعامين ..
يومها عدت الى المنزل حيث العراك اليومي بين امي وابي ومايكل .. وقفت انظر اليهما فترة وهم يتبادلون السباب .. ابي باللغة الهولندية واحيانا بالعربية التي تفهمها امي وان كانت تنكر ذلك .. امي ترد عليه بخليط من الهولندية والالمانية .. بينما يصر مايكل على الالمانية التي لا يتقنها ابي .. وفي لحظة صمت نادرة اخبرتهم بانني قد فقدت عذريتي .. صرخت امي وسقطت على الارض لعلمها بعلاقتي مع العربي القذر كما كانت تدعوه .. كاد ابي يصاب بنوبة قلبية .. اما مايكل فقد بصق على الارض بين قدمي وهو يسبني بكلمات لو كتبتها هنا لتوقفتم عن قراءة بقية يومياتي …
مر اسبوع هادئ على بيتنا وكأن اعلاني قد اصاب الجميع بالبكم .. كان ابي صامتا وتبدو عليه علامات التفكير العميق .. امي غاضبة وباكية .. مايكل ليس له اثر في المنزل .. الاسبوع الذي يليه كان غريبا .. بدا وكأن ابي يسعى الى ترميم علاقته المدمرة مع امي ويحاول ان يسترضيها .. كما بدا يكلمني بنضج وكانه اكتشف فجاة ان ابنته الصغيرة قد اصبحت امراة ..
وفي جلسة نادرة جمعتنا نحن الثلاثة فجر اقتراحه القنبلة .. طلب من امي ان يفترقا بلا طلاق لفترة معينة يعيدا فيها تقييم علاقتهما .. ان كانت بعدها ما مصممة على الطلاق فسوف يمنحها حريتها بلا مشاكل … كانت الغرابة تكمن في انه يرغب خلال هذه الفترة في العودة الى وطنه .. السودان .. وان يصطحبني معه فترة اجازتي الدراسية التي تبلغ خمسة وثلاثون يوماً …
لم تعجبني فكرة مغادرة موطني والذهاب الى بلد غريب والبقاء وسط غرباء طيلة هذه الفترة .. وترددت امي في قبول عرضه .. وهنا تجلى ذكاء ابي حيث ظل يلوح لها بجزرة الطلاق بالتراضي مما جعلها تلين من تصلبها وتوافق شريطة موافقتي انا على الذهاب معه .. وفي جلسة طويلة استغرقت ساعات ظل ابي يحفر ذاكرتي ويستخرج منها كل القصص الجميلة التي سمعتها عن بلده وانا صغيرة .. اعادني الى ايام احببتها .. الى الفترة الوحيدة التي شعرت فيها انني اعيش وسط عائلة طبيعية وليس في ساحة حرب ..
ظل يغريني بالجو الجميل والشمس الساطعة مقارنة بجو هولندا الغائم القاتم .. حدثني عن جدتي التي تتمنى رؤيتي قبل موتها .. عن اعمامي وعماتي .. كانت كلماته الاخيرة المعول الذي هدم به آخر حصون مقاومتي
” ياسمين انا باحاول اصلح حياتنا عشان اسرتنا ترجع زي اول واحسن كمان .. محتاج مساعدتك ..لازم نخلي امك براها عشان تفكر بدون ضغوط .. وما شرط نقعد هناك اجازتك كلها .. صدقيني لو الوضع ما عجبك طوالي حنرجع ”
انا من شعب يؤمن بالوعود .. يصدقها ويفي بها .. لذلك حزمت حقائبي وذهبت مع ابي الى بلده على امل ان تكون هذه اولى الخطوات في اصلاح حال عائلتنا التعيسة ..
في مطار الخرطوم المتهالك استقبلتني شمس مشرقة وحرارة لافحة فكانت علامة ترحيب جيدة .. اثناء دخولي الى الصالة احاطتني النظرات المعجبة المندهشة من ملامحي المتناقضة .. في هذه السن كانت الجينات الأفريقية قد لعبت دورها فاصبحت امتلك جسد امرأة ناضجة .. قامة طويلة وبشرة بلون البرونز .. شعر طويل متموج في حلقات لولبية تمازج فيه البني والذهبي بترتيب الهي بديع .. كانت عيناي السماويتان تتطلعان بفضول في الوجوه والمناظر ..
صدمني شكل المطار فهو يفتقر للجمال والنظافة مقارنة مع مطار امستردام الفخم .. تمت الإجراءات بسهولة وخرجنا تتابعني النظرات والابتسامات والهمسات .. كان أبي صامتا بشكل يدعو للريبة ويبدو انه قد أجرى اتصالاته قبل وصولنا .. ما ان خرجنا حتى هرول الينا رجل في اواسط العمر يرتدي ما يشبه الزي الرسمي وحمل أمتعتنا الى سيارة لاندكروزر حديثة ..
كانت رحلة طويلة استغرقت نصف اليوم او اكثر لم تتوقف فيها السيارة إلا للتزود بالوقود او شراء الطعام والماء .. أحسست بالخوف والتعب والغربة وصمت أبى لم يساعدني في التغلب على أي منها .. شغلت نفسي باللعب في كمبيوتري المحمول الذي أصررت على إحضاره معي .. ففيه كل عناوين أصدقائي في هولندا .. صور أمي ومايكل .. مذكراتي .. أغاني المفضلة .. كل ما احتاجه موجود داخله ..
يبدو لي ان جو السيارة المكيف والهدوء الذي لا يقطعه الا صوت قرآن خافت جعلني أغفو .. استيقظت على يد تهزني برفق لاكتشف ان السيارة توقفت في منطقة سكنية تحيط بها الصحراء .. نزل ابي امام منزل متواضع غريب الشكل .. لك يكن الباب مغلقاً فدفعه ودخل وأنا اتبعه بخوف … رأيت أمامي مساحة شاسعة أرضها تراب وفي نهايتها يوجد مبني وحيد غريب الطراز ..
بدا الاستقبال بصرخة أطلقتها امرأة خرجت من المبنى الصغير .. فتبعها آخرون .. وفجأة وجدنا أنفسنا وسط دائرة من البشر الذين يبكون ويضحكون في آن واحد .. وعلى أصواتهم المتنافرة تدافعت جموع اخرى من الباب المفتوح حتى امتلأت الساحة بطوفان من البشر .. كان ابي يتنقل من ذراع لآخر باكياً بصوت عال فيما بدا لي وكأنه كابوس لن ينتهي .. واخيرا تنبه البعض لوجودي فسالت اكبر النساء سناً ” دي منو يا سعيد ؟؟ ” كانت لهجة ابي مزيجا من الفخر والحزن ” دي ياسمين بتي يا امي ” وانطلقت الصرخات مرة أخرى واتى دوري في التنقل من حضن لاخر .. لم يتركوني الا بعد ان شارفت على الإغماء …
ليلتها اختبرت اغرب تجربة في حياتي .. النوم في العراء وتحت السماء مباشرة .. ظللت مستيقظة فترة طويلة وأنا ارقب النجوم وهي تدنو مني وتبتعد عني حتى خيل الي في لحظات أنني أستطيع إمساكها بيدي .. كنت أدرك إنها خيالات عقلي المرهق لكنني أحببتها في اليوم التالي اختبرت تجربة أخرى لا تقل غرابة عن الأولى لكنها مفزعة .. تم ذبح عدد من الخراف بوحشية بالغة بدعوى الترحيب بنا .. عزفت عن الأكل لمدة يومين حتى تفهم أبي مشكلتي واصبحت الخضراوات طعامي الرسمي …
كانت رؤيتي تثير دهشة كل من يراني .. ثم يتبعها الفرح عند سماع لهجتي السودانية الطلقة .. قابلت أعداد هائلة من البشر .. مر أسبوع من السلام الغريب عن طريق هز الذراع بقوة او الاحتضان بعنف وعانيت في نهايته من ألم حاد في ذراعي اليمين …
في الأسبوع الثاني لحضورنا اختفى كمبيوتري المحمول بصورة غامضة من الغرفة التي خصصت لي وحدي بعد أن رفضت بصورة قاطعة مشاركة أي كان خصوصيتي التي اعتدتها منذ طفولتي .. علل أبي الاختفاء بان لصا قد سطا على المنزل وسرقه اللابتوب مما أثار حيرتي .. لماذا يسرق لصا فقط كمبيوتري ويترك بقية أغراضي ومن بينها أشياء قيمة وغالية الثمن ؟؟ وعدني أبي بالبحث عنه فسكت على مضض .. لكن عندما اختفى جواز سفري وكل أوراقي الثبوتية من الدولاب أدركت ان هناك شيئا ما يحدث حولي .. شيئا غامضا يستهدفني .. فواجهت أبى بشكوكي … ويا لها من مواجهة …
” ياسمين .. انسي هولندا تماما .. انسي أمك ومايكل .. من هنا وجاي دي بلدك ودة بيتك وديل اهلك ” احتدم النقاش وارتفع صوتي وانا ادعوه بالكاذب المحتال فما كان منه الا ان صفعني بقوة .. كانت هذه اول مرة يضربني فيها ابي .. لكنها لم تكن الاخيرة …
حبست نفسي في غرفتي وبما انه لم يكن هناك قفل في الباب القديم .. قمت بوضع كرسي وراءه ورفضت الأكل والكلام .. في اليوم الثالث كسر ابي الباب ونقلني الى المستشفى لمعالجتي من الهبوط والجفاف .. اعتنى بي الجميع بعد عودتي لكنني لم أتجاوب معهم فقد كنت اشعر بكراهية شديدة لكل من حولي .. كنت أفكر في مدى صحة كلمات امي .. هولاء العرب القذرين لا يعرفون شئيا عن الوفاء بالوعود.. يدعّون ان دينهم يمنعهم الكذب ويكذبون كما يتنفسون .. ارغب بالعودة الى وطني .. ارغب بالعودة الى امي ومايكل فبرغم كل شئ هم لا يكذبون …
بت آكل فقط ما يعينني على البقاء حية وبعيدة عن المستشفى والتزمت الصمت التام برغم محاولات جدتي العجوز وعمتي التي تكبرني بثمانية اعوام … مرت شهور توقفت عن عدها .. ففي مدينة مثل ابو حمد تتشابه اللحظات والدقائق والساعات كنت خلال هذه الفترة قد اكملت عامي السادس عشر ..
وقتها فكر ابي ان علاجي الوحيد سوف يكون تزويجي حتى يقطع كل الجسور التي تربطني ببلدي وتبقيني هنا .. وتوافد الراغبون عندما علموا برغبة ابي وما كان اكثرهم .. جميع شباب المنطقة تقريباً تدافعوا للحصول على هذه المخلوقة الهجين بجمالها الغريب ..اخيراً وافق ابي على ابن عمي الذي يكبرني بتسعة عشر عاما .. اتاني مهددا بانه سوف يذبحني كما ذبحت الخراف عند حضورنا ويدفنني في صحراء ابو حمد ان انا رفضت الزواج .. اخبرته بموافقتي شريطة ان يتم العقد بوجودي واوقع على السجل بخط يدي .. استغرب طلبي ولكن فرحته الكبيرة بموافقتي السريعة جعلته يرضخ لما اريد .. حددت مواعيد العقد يوم الخميس على ان يتم الزواج بعد شهر حينما تكتمل عملية تحويلي الى امراة سودانية كاملة وحرق الجزء الهولندي في حفرة الدخان التي اعدت خصيصا لهذا الغرض …
يوم عقد القرآن البستني عمتي الثوب السوداني بعد جهد كبير وثبتته بكمية من الدبابيس حتى لا ينفرط عقده امام الرجال .. دخلت وجلست بهدوء امام العريس الم…ب الذي كان يرمقني بنظرات متلهفة فرحة .. انتظرت حتى وصل الماذون لكلمة البكر ثم القيت قنبلتي في وجه ابي وعريسي وكل الحضور .. اعلنت بصوت واضح ولهجة سودانية صميمة بانني لست بكراً واخبرتهم بفقداني لعذريتي مع صديقي منذ عام .. وان ابي على علم بهذا الامر ..
كانت فضيحة مدوية تكلمت عنها ابو حمد لفترة طويلة نلت بسببها ضربا مبرحا من ابي الحانق ونلت ايضا اعفاء من هذا الزواج المفروض عليّ وترحيلي من ابو حمد التي اصبحت جحيما لا يطاق من الغمزات المتبادلة في أي مكان يرتاده ابي ..
تم سجني في شقة مفروشة باحد الاحياء الجديدة في العاصمة بلا أي وسيلة اتصال بالعالم الخارجي .. لم احاول الاستغاثة .. فانا في بلده .. والقانون في صفه .. املي الوحيد هو ايجاد وسيلة للاتصال بالقنصلية الهولندية .. هذا الامل المستحيل ..
كان ابي يغيب لساعات طويلة .. احيانا طيلة النهار وجزء من الليل .. حتى ايقنت انه يتفادى البقاء بمفرده معي حتى لا تستعديه نظراتي اللائمة على ضميره النائم ولا تذكره ملامحي الشاحبة بافعاله القبيحة … تآمر ضدي الصمت والعزلة والاحساس بالظلم وبدات اهوي في بئر عميق من الياس واحسست باني اكاد افقد عقلي .. وفي ليلة طال فيها غياب ابي قررت ان حياتي ليس فيها ما يستحق ان اعيش من اجله ان كانت ستمر على نفس الوتيرة .. احضرت موس الحلاقة من الحمام وزينت معصمي بخطين رفيعين لكنهما يكفيان لاستلاب روحي المعذبة .. جلست بهدوء وانا انظر الى دمي يسيل ويملا الارض حولي .. عندما فتح ابي الباب بعد فترة قصيرة كنت لا ازال في وعيي احملق في البقعة الداكنة التي بدات تتكون تحت قدمي .. نظرت الي وجهه المفزوع بشماتة وتشف .. وعندما بدا ركضه اليائس نحوي وهو يصرخ .. غبت عن الوعي ..
فتحت عيناي في غرفة بيضاء انظف من تلك التي كنت فيها في ابو حمد .. طالعني وجه ابي الباكي ونظراته القلقة التي ذكرتني برجل كنت اعرفه في زمن مضى .. رجل اعتدت الجلوس على ركبتيه وسماع حكاياته عن وطن صار لي سجنا وجحيماً .. لم احس بالشفقة تجاهه ولا الحزن ولا أي شئ .. مجرد فراغ سكنني بعنفوان .. علمت انني احتجت لكمية كبيرة من الدم لتعويض ما فقدته .. وان ابي اعطاني دمه ..
جاءت الشرطة للتحقيق في محاولة الانتحار والتزمت الصمت التام فعلل ابي الامر بعدم معرفتي للغة العربية .. واخرج لهم جوازي الهولندي .. اخبرهم باني احس بالغربة والحنين الى بلدي واهلي .. فتركوني ومضوا ..
عند خروجي من المستشفى اخذني ابي مباشرة الى المطار .. سلمني جواز سفري .. كمبيوتري .. وتذكرة العودة .. بكلمات حزينة هامسة ودعني وانا مشيحة بوجهي الى الاتجاه المعاكس .. ” ياسمين .. يمكن هسة ما تفهمي انا عملت كدة ليه .. لكن حيجي يوم وتفهمي لما تتزوجي ويبقى عندك اطفال تحسي انك ممكن تعملي أي حاجة في الدنيا عشان تحميهم من أي شئ .. حتى من نفسهم لو استدعى الامر .. انتي حتة مني يا ياسمين .. حبك اتزرع جواي من اول لحظة فتحتي فيها عيونك في المستشفى ..
انا عملت كدة لاني عرفت من زمان اني ضيعت مايكل .. وكنتي انتي الباقية لي .. كنت عاوز احافظ عليك واحميك من حياة غلط .. لكن واضح انو انا الكنت غلط من البداية .. من يوم ما اتزوجت امك .. حاولي تسامحيني .. حاولي تفهمي وتتفهمي ” تعالى نداء طائرة الخطوط الجوية الهولندية معلنا دخول الركاب .. غطيت معصمي باكمامي الطويلة .. شددت ظهري .. رفعت ذقني واتجهت الى بوابة الخروج دون نظرة الى الوراء …
فــبرايـــر 2006م …
اصبحت في التاسعة عشرة .. انتقلت من امستردام الى مدينة صغيرة في الضواحي.. اعيش وحيدة في شقة خاصة بي واعمل في مجال الدعاية والاعلان .. خارج نطاق العمل اعيش كقط بري لا يألف الناس ولا يتعايش معهم .. اصد كل محاولات التقرب وارفض العلاقات الاجتماعية .. في الليالي الطويلة الباردة التي يجافيني فيها النوم .. اغمض عيناي واسترجع ذكرى سماء تغطيني ونجوم تدنو وتبتعد .. وفي لحظات اكاد اقسم باني اشم عبير الصحراء ومن وراء التلال يتراءى لي وجه حزين يطالبني بالتفهم والغفران .. وجه لكيان احمله داخلي طباعا وملامح ..
في احدى المرات صورت اعلانا وضع في غلاف مجلة مشهورة .. كتب احد النقاد معلقاً على شكلي الغريب ” يا له من جمال فريد .. في عينيها نداء الغابة .. وفي حركاتها توثب نمر افريقي .. يحيط بها جو من الغموض وكانها من عالم آخر ..
ارسلت المجلة بالبريد الى عنوان ابي في ابو حمد .. اتمنى ان تكون قد وصلته …
تمت القصة
“وكالة سودان برس”

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!