المسكوت عنه فى العلاقات السودانية المصرية (1) … “د. أمين حسن عمر”

كتبت منذ حين مضى بضعة مقالات حول العلاقات السودانية المصرية ويبدو أن الحديث المستعاد قد يصادف وقتا مناسبا لأكثر من مرة ولكن التوتر الذى يتصاعد فى العلاقات الشعبية بخاصة والعلاقات الرسمية إلى حدٍ ما يستوجب حديثاً صريحاً يفتح العرق (كما يقول المصريون) ويسيح دمه. فأنه ما من جرح يرم على فسادٍ إلا وإزداد فتقُه وألمُه ، فلابد من فتح الجراح وتنظيفها وتعقيمها بالكلام الصريح الذى يُسكت عنه فى غالب الأحوال وما يُسكت عنه هو سبب ما يُشتكى منه أو هو أكبر الأسباب.
مسكوكة العلاقات الأزلية:
ظلت عبارة العلاقات الأزلية تتكرر فى أوساط المثقفين والدبلوماسيين وأهل السياسة لتوصيف العلاقة بين البلدين. وهى عبارة فوق ما يكتنفها من معني خاطئ يفترض وجوداً أزلياً للبلدين ليفترض من بعد كون العلاقات بينهما ازلية ،فهى تجئ أيضاً من باب إلقاء الحديث علي عواهنه ، مما يحمل اشارة علي حالة خطابية عاطفية لا نظر علمي ولا تبصر واقعى لحقائق التاريخ والواقع المشهود. ولكن حتي هذه المنحى العاطفي لا يخلو من مبالغة في التعبير. فالعلاقات التاريخية لم تكن دائماً في أفضل أحوالها و هي في اللحظة الراهنة تشكو من شوائب كثيرة يتوجب علينا الاعتراف بها والتعامل معها برشد المدركين أن العلاقات لاتنشأ وتتواصل بين الأشخاص والجماعات والهيئات والدول خالصة من كل ما يشوب ويعكر . وقديماً قال الحكيم النابغة الذيباني.
وليس بمستبقٍ اخاً لا تلمُه
علي شعثٍ أيُ الرجالِ المهذبُ
فليس هنالك علاقة حقيقية بين الأفراد والشعوب ولو كانوا أولى قربى الا وبها من الشعث المشار اليه كثير أو قليل. ولكنه النقص الذي قد يدعو للاجتهاد في توثيق العري وتمتين الاواصرإن صدقت الرغبة من الطرفين. ويدرك الباحثون في الاثنولوجيا أنه ما من قوم اوجماعة الا ويحمل بعضهم لبعضهم الآخر توجسات وتحيزات، ما أكثر أمثالها بين شعبى وادى النيل . وربما تورث الألوان وإختلاف السحنات نوعاً من التحامل والتمييز اللوني والعنصري. ولكن الشعوب الراشدة هي تلك تتجاوز التحيزات والتوجسات الي التعارف الحق والتعايش الانساني النبيل. ومن الشوائب التي تشوب العلاقات المصرية السودانية في أبعادها الاجتماعية والنفسية والثقافية توجسات وتحيزات قد يرسخها التواصل المباشر فيورث نفوراً وتباعداً .أو قد يبددها التواصل المباشر والتعارف المفضي الي معرفة أفضل لما في الشعبين من خلائق وشمائل تنبثق من تجربة وجودية متشابهة، ومن ثقافة اسلامية عربية هي المشرب الذي يستقي منه أهل الوادي شمالاً وجنوبا، كما يستقون من نهر النيل ، و كما يتفاعلون مع محيط ثقافي وسياسي افريقي يتصل عبر النيل ، وعبر امتداد القارة من ساحلها الشمالي الي ساحلها الجنوبي. وقد أثبت الدراسات والتجارب العلمية قوة اتصال الشعوب العربية ببعضها البعض ومتانة أواصرها مع افريقيا جنوب الصحراء . ولكن المسافة بين السودان ومصر أقصر، وكان يجب أن تكون المسافة النفسية والاجتماعية بينهما أقصروأكثر خصوصية بأكثر مما نشهد ونعلم . كذلك فان الاتصال السكاني والحضاري عبر الحقب وتكامل الموارد الطبيعية والبشرية هو الذي جعل شعار اتحاد أهل الوادي أمراً أقرب الي البداهة منه الي الفكرة السياسية. ولئن ظلت طبيعة العلاقة مع السودان واحدة من أهم أجندة الأحزاب والقوي السياسية في مصر فأن السياسة فى السودان نشأت علي فكرة وحدة وادى النيل تكون عاجلاً أم آجلاً. فدعاة الاستقلال لم يكونوا مناهضين لفكرة الوحدة بل كانت دعواهم أن الأولوية تكون للاستقلال ثم يقرر الشعب السودانى من بعد التكامل او الوحدة مع مصر. بينما كان دعاة الاتحاد يتحدثون عن وحدة تكون باعلان الانضمام الي مصر .وأما مثقفو مصر فكانوا يتحدثون بلغة أخرى ليست هى الوحدة أو الإتحاد بل لغة الإحتفاظ بالسودان بصفته من الأملاك الخديوية بحجة فتح حاكم مصر محمد على باشا الألبانى للسودان، ثم كان ما كان مما يعلمه القاصي والداني وما يكون تفصيله من الاسهاب الزائد عن الحاجة.
النخبة المصرية كيف أفسدت العلائق:
كلمة النخبة كلمة أخترعتها الطبقة التى تتسمى بهذا الأسم. وهى تفترض أن جهة ما(ليست هذه الجهة ربنا خالق الخلق تعالى قدره) إصطفت وأنتخبت خير ما فى الشعب فأخرجت صفوته ثم منحتها الظهوروالسيطرة فوق وعلى أعناق الشعوب.وليس ثمة إدعاء عرفته البشرية لوصف أحوالها أكذب من هذا الإدعاء، فقد إدعت النخب دائما حقاً إلهياً فى الحكمة والحكم . وأما فى مصر على وجه الخصوص فقد بلغ الأمر إلى إدعاء الألوهية فى يوم من الأيام .ألم يقل كبيرالقوم لملائه الأعلى ماعرفت لكم من إله غيرى؟؟ ولئن كان الفرعون فى صورته وخطابه التاريخى قد أصبح شأناً من الماضى فإن جوهر الأمر لم يتغير كثيرا ، فلا يزال صاحب الكرسى هو مالك الحقيقة والحق المطلق، ولا يزال الملأ الأعلى هو ذات الملأ الأعلى ، ولو تغيرت الشخوص والأسماء والألقاب.ولاشك أن كل النخب تتعالى على شعوبها ولكن لنخبة مصر تاريخ خاص فى السيطرة والتعالى على الشعب. مكنها من ذلك خصوصية طبيعة الحياة فى مصر، التى تعتمد مدنها وأريافها على الرى من النيل، ولم يكذب من قال أن مصر هبة النيل، فقد شكلت سبل كسب العيش التى تعود كلها إلى النيل علاقات الإنتاج، ومن ثم كل علاقات الحياة فى مصر، فى صورة مكنت أهل السلطان من بسط سيطرة قابضة على سواد السكان الأعظم، إن لم نقل جميعهم. فمن يسيطر على قنوات الرى يسيطرعلى الحياة فى مصر.لذلك كان الرى من النيل هو مفتاح الحياة ومفتاح باب السلطان فى مصر.والرى من النيل ضرورة الجمهور الأوسع من الشعب، والناس عبيد الضرورة ،فالضرورة ليس منها من فكاك. لذلك فإن سيطرة الملأ الأعلى الذى يسمى نفسه نخبة فى مصر ما له فى الدنيا من مثيل ولا شبيه. وقديما قال أبن خلدون بعد أن شرح نظريته فى العصبية وأهميتها فى قيام الدولة والإحتفاظ بسلطانها أن الحال فى مصر غير ذلك.ذلكم أن حاجة الناس لما تضع الدولة يدها عليه هو سبب طاعتهم للدولة، وليس الأمر بعائد لقوة الدولة الذاتية. ونحن إذ نتحدث عن الدولة لا نتحدث عن الحكام أو حتى عن ملائهم الأعلى من وزراء كأمثال هامان وقارون وإنما نتحدث عن طبقة أوسع وصفها المنظر الماركسى الإيطالى غرامشى وسماها الطبقة المسيطرة.فطبيعة الدولة لدى غرامشى أنها قمعية . لأنها تتكون من أجهزة تغلب عليها ثقافة السيطرة والقمع، مثل الجيش والبوليس والقضاء ، وأحيانا تنشأ مليشيات تحت كنف هؤلاء تكون أكثر قمعاً. ثم أنه هناك الحكومة والبرلمان إن وجد فاعلاً أو تابعاً ، والبيروقراطية ثم مؤسسات للتنشئة على الخضوع كما يصف غرامشى ، مثل المدرسة والدور المتخذة للعبادة والأحزاب السياسية إن وجدت فاعلة أو تابعة. بيد أن غرامشى يرى أن الدور الأخطر فى تكريس سيطرة أهل السيطرة إنما يضطلع به من يتسمون بالمثقفين ويحبون أن يُعتبروا أنهم هم النخبة الفكرية والثقافية والمدنية فى الدولة.وغرامشى يرى أن كل طبقة تنتج نخبتها المثقفة. وكل وضع سيطرة يستظهر بمفكريه ومثقفيه وفنانيه وأهل المسرح والفنون والأعلام من مظاهريه وأهل الموالاة له. فالإقطاع قبل نشؤ دولة البرجوازية الصغيرة كان له منظروه ومثقفوه وغالبهم من ذوى المسوح الكنسية، ولكن الدولة الرأسمالية صنعت نخبتها الخاصة فكانت أنكى وأضل. والنخبة المثقفة عند غرامشى أشبه بالأسمنت الذى يشد بناء السيطرة الرأسمالية بعضه إلى البعض الآخر، وهو محق فى هذه الجزئية على الأقل.وعوداً على بدء الكلام عن النخبة المصرية فإنها ظلت تصلح مثالاً لما أعطاه غرامشى للنخب الثقافية من أوصاف و أدوار.فهى ظلت تنظر من برجها العالى للعامة إذ تسميهم الدهماء . وهؤلاء الموسومين بالدهماء حيناً وبالغوغاء حيناً آخر هم سواد الشعب الأكبر. ولا يهز ضميرأهل البرج العالى قط ما يرون الشعب يعانيه من من مسغبة وضنك عيش، ألجأ الملايين منهم إلى منافسة الأموات على المقابر.فالأمر المهم لدى أفراد النخبة كان دائما هو الترقى فى الوظيفة العامة أو الظهور والسطوع فى المشهد العام . ولكى لانخص النخبة المصرية ظالمين بهذا الوصف فهذا هو واقع حال النخب فى جميع البلاد، لا نستثنى منه بلادنا ، ولكن نخبة مصر كانت هى الأنموذج المحتذى فى ذلك. ثم أن العوام لدى النخبة هم أنواع وأصناف، فليس عوام المدن مثل عوام الأرياف ،وليس عوام أرياف مصر السفلى مثل عوام مصر العليا التى تسمى الصعيد وقد تحولت مفردة صعيدى إلى مفردة أقرب للتحقير منها إلى الوصف أو نسبة المرء إلى موطنه. وأما صعيد الصعيد الذى هو السودان فهو أدنى من ذلك وأقل. وربما يرانا بعض الناس قد بالغنا فى الشطط وفى التحامل على نخبة مصر ولكننا آلينا على أنفسنا أن نتحدث بالمسكوت عنه عند غالب الناس فى بلادنا من إنطباعات تجاه النخبة المصرية، وبخاصة فى تعاطيها مع شأن السودان وأهل السودان.وهبنا بالغنا فى الشطط فإخراج الهواء غير النقى خير من كتمانه ، والقول الذى نقول معروض لمن يفند دعواه ويميز حقه من باطله فلن يتبقى بعد ذهاب زبد كل دعوى إلا الحق الذى به ينتفع الناس
مصر أم الدنيا فمن السودان ؟
نحن لن ننافس مصر فى أمومتها للدنيا، فالسودان بإسمه الذى به يُنادى محسوب فى الذكران لا فى الإناث.ولكننا قد نسأل عن موقع السودان من هذه الأم ولديها. وقد غضب فئام ليسوا بالقليل من أصحاب الأقلام وأصحاب المقاعد الوثيرة فى الأستديوهات الإعلامية، غضبوا من حديث بعض السودانيين عن عراقة حضارة السودان ، وأن الحضارة فيه حسب أقوال علماء( ليسوا بالقليلى العدد ولا الشأن) سبقت الحضارة فى مصر. وهذا القول بلا ريب لابد له أن يثير غضباً عارماً لدى أصحاب مقولة (مصر أم الدنيا).وما كان لهم أن يغضبوا فإن سابقة السودان إن صح قول القائلين بذلك لا تقدح فى أمومة مصر للدنيا، فإن سابقة آدم على حواء فى الخلق لم تقدح فى أمومتها للبشرية.و قد يعلم الألمعى أن ما تقدم من قول يمكن أن يؤخذ من باب المزاح ، ولكن ما يليه من قول ليس مزاحاً.فالحديث عن مصر والسودان بمعطى الجغرافيا السياسية المعاصرة لا يعدو كونه خطلاً عاطفياً.فإن حدود ما يعرف بالسودان قد إمتد سلطانها فى قرون عديدة حتى بلغ إلى الشام ، وحدود ما يُعرف بمصر اليوم قد تمددت فى يوم من الأيام حتى بلغت إلى عدوليس (مصوع ) فى أرتيريا. فالجغرافيا السياسية لا تحدد العلاقات بين الشعوب بل أن الشعوب هى التى ترسم الجغرافيا السياسية على مدى الأزمان.وما يحب أبناء النيل فى مصر تسميته بحضارة فرعونية نسبة إلى الملك الفرعون، يحب أبناء النيل فى السودان تسميته بحضارة نوبية نسبة إلى الشعب النوبى . وكلٌ يسمى ما يحب بالإسم الذى يحب. وقد كان من خطأ بعض المتنفذين فى النخبة المصرية وخطل الرأى والتصرف لديهم أنهم حاربوا وصف الحضارة التى تبدو أثارها فترى للعيان و تمتد من شمال الخرطوم إلى جنوب القاهرة بأنها حضارة نوبية، ذلكم رغم العلاقة التى لا ينكرها إلا مكابر بين لغة ذلكم العهد المسماة هيروغلوفية( من منحها هذا الأسم؟) وبين اللهجات النوبية التى يتحدث بها الناس حتى يومنا هذا، ورغم الشبه الذى لا تعمى عنه إلا عينٌ عاشية بين سُحنات المؤميات القديمة وسُحنات أهلنا النوبيين فى شمال السودان وجنوب مصر، أو إن شئت فقل أهل مصر العليا وأهل السافل من أرض السودان.وقد بلغ التشدد ببعض هؤلاء الرسميين فى مصر أن هددوا الحكومة الفرنسية بإخراج البعثات الفرنسية من مصر إن هى مضت فى إنجاز معرض ممالك على النيل فى باريس، والذى نظمه فى تسعينيات القرن المنصرم معهد العالم العربى فى باريس(كنت إبان ذلك مسئولاً عن شأن الثقافة فى السودان ) وقد ظل سفير القاهرة يبذل غاية وسعه لمنع حدوث ذلك الحدث حتى اللحظة الأخيرة ، ونحن إذ نذكر ذلك نسأل الرحمة للراحل إدغاربيزانى مدير معهد العالم العربى الفرنسى الجنسية الذى صمم على إمضاء الأمر ولو كره الكارهون، ثم تحرك المعرض إلى كافة أنحاء أوربا ومصر الرسمية حانقة وغاضبة. ثم تردد حديث فى اليونسكو من بعد نجاح المعرض لإقامة متحف دائم للحضارة النوبية، فعارضته مصر الرسمية فلما لم تجدِ المعارضة فتيلاً أصرت أن يقام المتحف فى مصر، وليس فى السودان المكان المقترح الأول لإقامة المتحف . ولقد شهدت بنفسى كيف أضُطرت بعض البعثات الأوربية والبعثة اليابانية الأثارية للخروج من السودان بعد التهديد المصرى بطرد البعثات الأثارية من مصر.وآخر الأمثلة على غضب الرسميين المصريين وأتباعهم من المثقفين هو ما أظهروه من غضب وموجدة من زيارة الفضلى موزة بنت مسند (عقيلة أمير قطر الأب ووالدة الأمير تميم) لمواقع الإهرامات النوبية المروية فى السودان ومن الدعم القطرى لبعثات الإستكشاف الأثارى فى السودان، وقد كان ذلكم الغضب محيراً لمن لم تكن له سابقة معرفة بإتجاهات مصر الرسمية وملائها الأعلى والأدنى تجاه إبراز أصول الحضارة النوبية أو أمجادها فى السودان.
ونواصل

مقالات د. امين حسن عمر>>

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!