من يحاسبُ من ؟! … “أدهم شرقاوي”

في الأسبوع قبل الماضي تظاهر الآلافُ في ميدان “كوانج هوا مون” في العاصمة الكورية الجنوبيّة سيول، مطالبين برحيل الرئيسة “بارك جون هيه” على خلفية فضيحةٍ باستغلال النفوذ، حيث قامتْ الرّئيسة بتوظيف صديقة لها! فخرجت الرئيسة في خطاب متلفز واعتذرت من الشعب، وطلبت الصّفح، ودموعها على خدّيها!
إذا تملكتكَ الدّهشة وأنتَ تقرأ الخبر أعلاه، فلا شكّ أنك من قاطني الدّول العربيّة الذين أخبرتهم مناهج التعليم صغاراً، وفقهاء السلاطين كباراً، أنّ وليّ الأمر “لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون”! وأنّ محاسبة الحاكم من عادات الكفار والعياذ بالله، وأن المسلم الحقّ يجب أن يكون بين يدي حاكمه كالميت بين يدي مُغسّله يُقلّبه كيف شاء!
قد تستغرب إذ أقول لكَ أنّ هذا ليس من الإسلام في شيء، وأنّ الفقهاء الذين أرادوا منك أن تكون خروفاً طائعاً في قطيع مُسالم يعملون عند وليّ الأمر لا عند الله! وقد تسألني باستغرابٍ: أكانَ المسلمون الأوائل يُحاسبون حكامهم كما تدّعي؟! فإني أقول لكَ: أجل كانوا يفعلون! وسآتيك من الأدلة بما يرضيك! ولكن دعني أخبركَ أولاً أنّ البيعة في الشريعة بإجماع الفقهاء هي عقد تُوكل الأمة بموجبه رجلاً منها ليدير شؤونها، ويسهر على مصالحها، ويُدافع عن حدودها، ويقسمُ أموالها بينها، وأنه بهذا المفهوم موظّف عند الأمة وليست هي موظفة عنده! وأنه بإجماع الفقهاء أيضاً ليس له من مال الأمة إلا راتبه الذي يتقاضاه نظير الوظيفة التي يقوم بها فإن أخذ فوق هذا فهو سارق! وأنّ الطاعة بالمعروف له وحده، فمصطلح العائلة المالكة ليس له وجود في الإسلام!
نعودُ إلى موضوع المحاسبة، وأضربُ لكَ مثالين، أحدهما في محاسبة الحاكم في المال العام، والثّاني في محاسبة الحاكم في التشريع وسنّ القوانين، والحادثتان قد وقعتا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن كان عمر قد حُوسب فلا عصمة لمن دونه، وحكامنا لو اجتمعوا في رجلٍ واحدٍ لكان دونه!
كذبوا علينا إذ أخبرونا أن محاسبة ولي الأمر جهاراً نهاراً معصية لله ورسوله، والحقيقة أنها رأس الدين، لأنّ فساد السياسة فساد للدنيا والدين
روى ابن القيّم في أعلام الموقّعين، أنّ عمر بن الخطاب أتته ثياب من اليمن فوزّعها على المسلمين ثوباً ثوباً، وأخذ هو ثوباً فهو رجلٌ من المسلمين، ولما كان يوم الجمعة، صعد المنبر وقال: أيها النّاس: اسمعوا وأطيعوا.
فوقف سلمان الفارسيّ وقال له: واللهِ لا نسمعُ ولا نُطيع!
فقال عمر: ولمَ يا سلمان؟!
فقال سلمان: تلبسُ ثوبين، وتُعطينا ثوباً واحداً!
فقال عمر: يا عبد الله بن عمر، أجِبْ سلمان!
فقام عبد الله وقال: إنّ أبي رجلٌ طويل القامة، عظيم البنية، ولما لبس ثوبه كان عليه قصيراً، فأعطيته ثوبي، فوصله به، فصار كما ترى!
فقال سلمان: الآن قُلْ نسمع، وأمرْ نُطِعْ!
وإنّكَ لا تعرفُ لمن تعجب، لسلمان يُحاسبُ رئيس الدولة في متر قماش! أم لرئيس الدولة الذي لا يرى نفسه فوق القانون والمحاسبة فيردُّ التهمة عن نفسه! أم لهيئة كبار الصحابة التي لم تتزلفْ لرئيس الدولة وتتهم سلمان بأنّه من الخوارج!
هذه محاسبة في المال العام، وإليكَ المحاسبة في التشريع وسنّ القوانين!
لمّا رأى عمرُ النّاسَ يُغالون في المُهور أراد أن يُحددها ليُسهّل أمور الزّواج، فصعد المنبر، وسنّ قانوناً جديداً يقضي بتحديد المهور، فقامتْ الشّفاء بنت عبد الله وقالت له: لا يحلُّ هذا لكَ يا أمير المؤمنين! إنّ الله قال: ” وإن أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ وآتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً… ” فإذا كان الله قد أطلقه، فبأي حقّ تحدده أنتَ؟!
فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عُمر!
ولا تدري أيضاً لم تعجب، للمرأة التي لم تقبل أن يُخالف قانون الدولة المصحف، أم لعمر الوقّاف عند الحقّ، أم لهيئة كبار الصحابة التي لم تتزلف لعمر وتقول له: امضِ بما أنتِ فيه فإنها ناقصة عقل ودين!
كذبوا علينا إذ أخبرونا أنّ الناس موظفون عند وليّ الأمر، والحقيقية أنّ وليّ الأمر موظّف عند النّاس، وكذبوا علينا إذ أخبرونا أن محاسبة ولي الأمر جهاراً نهاراً معصية لله ورسوله، والحقيقة أنها رأس الدين، لأنّ فساد السياسة فساد للدنيا والدين، وقد قال صاحب الشريعة: “سيّد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى حاكم ظالمٍ فأمره ونهاه فقتله”! وكذبوا علينا إذ أخبرونا أنّ أموال الأمة هي ما تبقى بعد ما أخذ الحاكم ما شاء منها، والحقيقة أنّه ليس له إلا راتبه، وكذبوا علينا إذ أخبرونا أنّ الذين يقفون ضدّ أخطاء الحكام يكرهون أوطانهم، والحقيقة أنّ هؤلاء هم الذين يحبونها حقاً!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!