الكلام المسهوك … تأملات فى الخطاب السياسي الدارج (4) … “د. أمين حسن عمر”

يتخذ الخطاب الموجه إلى جهة ما أصنافاً متعددة فهو قد يكون محادثة إن توجه لشخص تواجهه وتباشره بالكلام . وقد يكون حواراً إن كنت تطرح موضوعاً للمناقشة وتتوقع تفاعلاً ممن تخاطبه. وقد يكون خطبة إن كان موجها لجماعة معلومة تباشرها بالكلام ولا تتوقع منها الرد . وقد يكون كلاماً مبثوثاً عبر وسيط لجمهور غير محصور ولا معلوم، ثم جاءت الوسائط الجديدة فإختلطت الأمور بين المحادثة والخطبة والبث العام . بيد أن الخطاب السياسى لم يتهيأ بعد للتلاؤم مع مستجدات التكنولوجيا والوسائط الجديدة. فلا يزال يحافظ على خطابيته التى لا تتوقع تفاعلاً من الطرف المخاطب ، ولا تأبه فى أحيان كثيرة من يكون ذلكم المخاطب . ولذلك فهوخطاب أشبه مايكون بالطلقة الطائشة لا تصيب هدفا إلا بالمصادفة المحضة.الكلام المسهوك…
عبثية الخطاب السياسي:
أشرنا فيما سبق إلى إمتلاء الخطاب السياسى العربى بالمسكوكات والعبارات الخاوية أو فقيرة المعنى ،ذلكم أنه أقرب إلى كونه تقريرا من كونه خطاباً موجهاً للإقناع.فطبيعة الحالة السياسية السائدة لا تجعل الإقناع أمراً مهماً أو أن يسعى السياسى (وبخاصة صاحب السلطة) للإقناع بإختياراته مهما تكن مجانبة للصواب مفارقة للمنطق السليم أو القسطاس المستقيم.وقد يعلم العقلاء أن جوهر السياسة الراشدة أنها مشاورة ومساجلة. فبلاغة الخطاب السياسى هي بلاغة مشاورة وحوار.ذلكم أن مقصود السياسة هو التدبير ولا يكون تدبيرا إلا بإستصحاب السواد الأعظم من الناس الفاعلين أو جمهورهم الأغلب، ولا يكون ذلك إلا إقناعاً أو إكراهاً. وقد علم الناس منذ عهد قديم أنه من العسير إكراه غالب الناس غالب الوقت، ولذلك فإن بلاغة الخطاب وبلاغة الإقناع هى آلة السياسة التى ما منها من مندوحة .بيد أن ساستنا فى العالم العربى بات يخفى عليهم المعلوم من الأمر للكافة، فحسبوا أن تدبيج الكلام فى تقريرات مكتنزنات بمسكوك ومسهوك الكلام يمكن أن يجديهم سائر الوقت.وتأمل ما تشهده الساحة العربية هذه الأيام من أحداث وما تُرجع أصداؤها من خطاب سياسى فارغ من كل مفهوم مفارق لكل منطق معلوم.
إن جوهر السياسة هو أخذ الآخر فى الإعتبار ليكون بالإقناع من أهل الموالاة والمؤازرة أو إن كان من أهل المناوأة والمعارضة فبالإحتواء وتقليل الأضرار.فالناس لا يعدو أن يكون أحدهم موالياً نستديم ولاءه بالإقناع ، أو أن يكون منازعاً نحتوى نزاعه بالمناظرة والمساجلة لإقناعه أو عزله عن من سواه ، أو أن يكون منقاداً لسواه بغير بصيره بالإستهواء لموالى أو المناوىء فهو تبع لمن تابع.فالسياسة هى دائرة التشاور والحوار والمناظرة، وإلا صارت دائرة للمنازعة والتعانف.وقد أخذت السياسة إسمها من ساس يسوس الذى هو من الترويض فهى تفترض إبتداء ضرباً من التجاذب والمقاومة قبل أن تسلس الأمور وتسلم قيادها.وهى بذلك تتعامل مع وضع قائم يشتمل على نوع من المقاومة الطبيعية أو النفسية أو الإجتماعية بقصد تغييره نحو وضع جديد يُظن أنه الأفضل وأنه المفيد.فالسياسة درء وضع يُظن عدم ملاءمته وجلب وضع جديد تُظن فائدته ومنفعته. والمعتاد فى الطباع أنها تأنس لواقع الحال مهما كان راهنه فقير بئيس، فالناس يخافون الإنزلاق إلى وضع أسوأ لذلك يلجؤون للمحافظة على ما هم عليه . ومهمة السياسة هى تغيير الأوضاع للأحسن أو حيث يظن الساسة أنه الأحسن، ولذلك فهى تعمل بخلاف إتجاه الرياح.ولذلك فهى إما أن تبذل جهداً مضاعفاً فى إقناع الناس أو تفرط فى قمعهم إن هى أرادت تعديل الأوضاع بصورة ملموسة.ولاشك أنه مع حالة فقر الأفكار التى يعانى منها الملأ السياسى فى منطقتنا فلا عجب أن يكون طابع السياسة قمعيا ومن يلجأ للقمع فلا شك أنه لن يبذل جهداً كبيراً فى صياغة بلاغة إقناعية.
بلاغة الإقناع في مقابل القمع:
كان سقراط وأرسطو وإفلاطون ومن بعدهم الفارآبى وأبن سينا وأبن رشد يصلون بين رشد الفكر ورشد الحكم ،ولاشك ولا مشاحة فى صحة ذلك الوصل . فهكذا يتحدث الكتاب العزيز وصلاً بين الحكمة وفصل الخطاب والحكم بالعدل.والسياسة التى لا تستند على المعرفة سوف تستند على الهوى والتشهى لا ريب فى ذلك ولامراء.والمعرفة إنما تنال بالمدارسة والمشاورة وهو البعد الأول من السياسة الراشدة والذى هو الشورى، وهى وسيلة إكتساب المعرفة وأختزانها ، ولايكون ذلك إلا بالحوار . وما الحوار إلا المساجلة أن تدلو بدلوك وأدلو بدلوى، فالمدارسة حوار والمحاضرة التى تسمى فى أيامنا مثاقفة حوار وكل تفاعل بين جهتين فى المعرفة حوار فما الحوار إلا المراجعة أن أدلى بقول فترجع عليه بقول آخر يعززه أو يفنده. ومن شكول الحوار المناظرة التى تشتمل على المساجلة المنطقية الإستدلالية والبرهانية.والعاقل من ولج لكل مناظرة بعين التدبر والإعتبار ليستفيد من كل ملاحظة ويتقوى بكل حجة ومنطق سديد. وكل مناظرة هى محاججة فى جوهرها فإذا دخلها التعصب صارت عقيمة وصارت بأصحابها للتعانف بدلا من التفاهم.فالتعصب حالة إستهواء مزاجى عاطفى نفسى وهو بلا شك سبيل الضلال ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).وخطاب الإستهواء خطاب هوية فى صفته الأساس بمعنى أنه تطغى عليه العناصر الذاتية الوجدانية لاالعناصر العقلية الفكرية ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) فسبيل الرشاد هو سبيل الحاكم المتغلب فهو الميسم له والمعلم عليه. ولكم يذكر هذا بالخطاب العربى الدارج الذى يستدل على الحكمة بمن صدر منه الكلام إن يكن صاحب سلطة ومقام.وخطاب الهوية هو خطاب نحن وهم .فنحن شارة الإصلاح والتصحيح والخلاص وهم علامة السقوط والإنتهازية والدموية سواء جاء الخطاب من موالين أو معارضين فكيف نطمع بحوار وتفاعل خلاق أو جدلية مثمرة منتجة؟
فالموالاة عند البعض تعنى التصويب فى كل حال ونفى القصورفى كل جانب، بله من إثبات الفشل أو الفساد ولو كان جزئياً. وما من حكومة إلا فيها الخطأ فى التقدير والقصور فى الإنفاذ، وفيها العجز الادارى والفساد بوجهيه الادارى والمالى مهما تطهرت وتزكت ،فلا شك أن إمتحان السلطان لن تكون نتيجته نجح الجميع، لم يفشل ولم يخفق أحد. وأما جهة المعارضة فخطابها ليس خطاب العرض الآخر والبرنامج البديل بل هو خطاب الاعتراض والتعويق وسد الطريق على كل جهد مبذول من أهل الموالاة ولايهم صلاح ذلك الجهد من فساده ولا نفعه من ضره، يكفى أن من تلقاء الحاكمين جاء، فالموالاة تكون على الهوية والمعارضة تكون على الهوية لا على ما ينفع ويضر.
الخطاب السياسى والخطاب الدعائي:
ولئن كنا قد أوضحنا تعريفنا للخطاب السياسى إلا أن الخطاب السياسى قد يتخذ أسلوب الدعاية فيصبح خطابا دعائيا قليل المردود من حيث قدرته على الإقناع وليس بالضرورة قليل الفائدة من حيث قدرته على سوق العامة على الانصياع لخطاب السلطة مهما يكن فقير المحتوى متهافت المعانى.وربما نحتاج إلى تعريف موجز لمقصودنا من كلمة دعاية.
عرفت الدعاية بتعريفات عديدة فبعضهم قال(ان الدعاية ما هي الا فن التأثير والممارسة والسيطرة والالحاح والتعبير والترغيب، اوالسعى لضمان قبول وجهات النظر والاراء و الاعمال او السلوك)والدعاية هى محاولة(غالبا من مركز سلطة ) التأثير على الشخصيات او السيطرة على سلوك الافراد لاغراض تعتبر غير عملية او مشكوكا في قيمتها في مجتمع معين و زمن وهدف معينين وربما تكون ذات أغراض ترويجية تجارية أو سياسية ولكن أسلوبها الذى يركز على الاستمالات العاطفية وربما الإكراه المعنوى لا يتغير فى كل الأحوال.وقديما درسنا أن للسلطة وجهين وجه قسرى عبر القانون ووجه توجيهى عبر النفوذ العلمى والآن اصبح للسياسة أسلوبان للنفاذ أحدهما يتمثل فى القدرة على إستخدام القوة الشرعية وأحيانا غير الشرعية والثانى يتمثل فى القدرة الدعائية.وإستخدام الدعاية المفرض فى زماننا إنما مرده لأزمة الصدقية وأزمة الشرعية.فمن المعلوم أن البضاعة الجيدة تكون بضاعة مزجاة لا يحتاج صاحبها للنداء عليها لتزجيتها وأما البضاعة المشكوك فيها أو غير المعروفة هى التى تحتاج للنداء عليها وأنظر كيف يجهد الباعة أنفسهم آخر النهار بالنداء على بضائعهم غير النافقة. فهكذا يفعل أهل السياسة فهدف الدعاية هو التبرير للسياسات والتصرفات وإضفاء الشرعية عليها .وطرائق الدعاية تعتمد على الإستهواء أى إثارة مشاعر المشاهد والمستمع والقارىء وبناء إنطباعاته بالإستمالات العاطفية.وأساليب الدعاية إنما تعتمد على بناء قوالب وأنماط جاهزة وتسمية الشىء الواحد بأسماء متعددة وتعتمد الغموض من خلال إطلاق الشعارات والعبارات الفضفاضة وتكرار المعلومات غير الصحيحة وغير الدقيقة لاضفاء الصدقية عليها بالتكرار وإستدعاء إحصاءات غير دقيقة وإستفتاءات غير علمية وإستخدام العبارات الشائعة المستملحة والشخصيات المشهورة والسعى للتماهى مع المزاج العام وليس الرأى العام مع إدعاء أفساح المجال للرأى الآخر وتجشم الموضوعية والتنائى عن الحساسيات الشعبية .ولعل السؤال البدهى الذى يفرض نفسه لماذا يلبس الخطاب السياسى العربى لبوس الدعاية ولا يتخذ سبيل المقاربة الإقناعية ؟ والإجابة بسيطة وهى أن دعائية الخطاب السياسى مرجعها إلى عجزه عن إنشاء تواصل حميم مع الواقع ومع الجمهور الذى يخاطبه ومردها كذلك إلى فقر الأفكار وفقر البرامج الذى تعانى منه السياسة فى العالم العربى وإلى عجزها عن تجديد فكرها أيا كان الفضاء الذى يسبح فيه هذا الفكر إسلاميا كان أم قوميا أم وطنيا قطريا وبالتالى عجزها عن تطوير خطاب يحمل هذا الفكر للكافة.ولاشك أن حالة القطيعة الإجتماعية بين النخب الحاكمة والجماهير المحكومة هى أساس المشكلة.ذلك أن النخبة تعيش حالة طفو فوق الواقع ولذلك فإنها تسعى من خلال الخطاب إلى إصطناع واقع مفترض . ولا يهم كم هى تناقضاته ومفارقاته لوقائع الأحوال . ولكم تختلط العوالم والعبارات والشعارات فى الخطاب السياسى العربى فتأمل على سبيل المثال خطاب الأنظمة القومية الذى يدعو للوحدة ثم تأمل خطابها القطرى المعادى لرفقة النضال من أجل ذات القضية، إنظر الى خطاب بعث العراق وخطاب بعث سوريا والبعوث التابعة لهؤلاء وأولئك ، ثم أنظر لخطاب مصر الناصرية.هذا بشأن القضية المركزية لهؤلاء جميعا قضية الوحدة العربية ثم أنظر إلى خطابهم تلقاء من يصورونه الخصم التى هى أمريكا كيف تكون هى الخصم وهى الحكم فى آن واحد. وكيف تكون هى الشيطان وهى المثال الحضارى فى آن واحد .ثم أنظر إلى خطاب هؤلاء الذى يزعم أن الاشتراكية هى سبيلهم للنهضة والرفاهية وأنظر من بعد إلى سياسات تلك الحكومات وإنجازاتها على صعيد الواقع فالعراق القومى إنتهى عشائرياً وسوريا القومية إنتهت إلى الطائفية ومصر الناصرية إنتهت إلى إستيلاء الجيش على السلطة والمال معاً بلا شركاء ولا حتى أجراء.وأنظر إلى حال الأحزاب الليبرالية العتيقة مثل حزب الوفد المصرى وكيف لم يبق من ليبراليتها إلا حرية الأسواق، أما حرية المواطن فإمكانها الانتظار. كذلك فإنه حتى الحركات الاسلامية التى يصلها مع الجمهور حبل الدين المتين فشلت هى الأخرى فى الإندماج مع الجماهير الشعبية وفضلت أن تبقى مع النخب المجانبة والمحاربة لها . وهى الأخرى لم تنجز شوطا يذكر فى تجديد فكرها أو تطوير أساليبها. ولذلك بقى خطابها خطاب نخبة وظلت مع بقية النخب فى الطابق الأعلى من المجتمع، بل أن ردات فعل غالب الحركات الإسلامية للدعوات الحقيقية لتجديد الفكر وتطوير الأساليب قد إتسمت بروح شكوكة إن لم نقل روحا عدائية تجاه التجديد والمجددين، وظل الحديث عن التجديد يدور حول قضايا شكلية أكثر منها قضايا مفاهيمية ذات قدرة على تفاعل حيوى مع الواقع الذى إختطفه الأنموذج الغربى فى تفاصيله ومجملاته.ومما لا شك فيه أن أزمة الخطاب السياسى العربى هى أزمة أفكار فى المقام الأول ومالم تشهد المنطقة حقبة تنويرية تتجدد فيها الأفكار ويسود فيها نهج الحوارفسوف يتطاول إنتظار الناس ليوم يبصرون فيه ضوءاً فى نهاية النفق نفق العجزوالإستضعاف و التخلف الحضارى.
د. أمين حسن عمر

مقالات د. امين حسن عمر>>

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!