المسألة الاقتصادية … جنون الأسعار (1) … “د. أمين حسن عمر”

تحركت الحكومة على أعلى المستويات فى محاولة ربما هى الأكثر جدية من أوائل التسعينيات لمحاولة كبح لجام الأسعار . و أن تأتى أخيرا خير من أن لا تأتى ، فإنه ربما أن شعار آدم سميث (دعه يعمل دعه يمر ) لم يجد فرصته فى الخروج من ضائقة النظر إلى فسحة التجسد الواقعى على الأرض إلا فى السودان. فلا أحد يفعل ما يفعله أهل السودان فيما يطلقون عليه حرية السوق إلا إياهم .ففى سوق السودان التى يطلقون عليها أحيانا سوق ( الله أكبر ) وهو بلا شك كذاك . وأحيانا سوق (أم دفسو ) وما أصدق الوصف فهى بالفعل سوق ( التدافس ) والتنافس بغير نظام.ذلك أن المرور فيها لاتحكمه قواعد للمرور.أرأيت لو أنك ألغيت قواعد المرور فى طريق مزدحم هل تحظى بغير التزاحم والتصادم . إن أحوج ما تحتاجه أسواقنا هى القواعد المنظمة للسلوك فى مزدحماتها. ولن يكون ذلك بدعة منكرة فى ثقافة الإقتصاد الحر، فأفضل الممارسات التى يعرفها العالم شرعت القوانين والقواعد المنظمة لحركة التجارة، ولضبط المعاملات لضمان جودة الخدمة التجارية وعدالتها . أما أن نترك الناس نهباً لطمع المستربحين وجشع الجشعين فليس ذلك مما يوحى به عقل رشيد.
لماذا تجن الأسعار:
جميع الناس يقولون إن الأسعار قد جن جنونها ثم لا يسألون لماذا يجن جنونها ثم لا تعالج أو يوثق وثاقها.وأسباب جنون الأسعار عديدة وأولها الإحتكار، وثانيها الإستيراد من غير المنشأ، وثالثها السمسرة فى السلع ،ورابعها المضاربة فى العملات ، وأسباب عديدة أخرى لم يعجز الناس فى بلاد أخرى أن يجدوا لها معالجات فى إطار سياسة كلية تؤمن بالإقتصاد التنافسى الحر.والإحتكار هو الآفة الكبرى فى الإقتصاد السودانى وهى التى تحول دون إطلا ق ديناميات الإقتصاد الحر. وأول أسبابه صغر وضعف الإقتصاد الوطنى مما يجعل صناع كل سلعة ومستورديها عدداً قليلاً لا يؤمن تواطؤه على إغلاء الأسعار.والأحتكار فى الإقتصاد يحدث عندما يكون سوق سلعة ما مسيطرا عليه بواسطة شركة واحدة كبرى أو عدد قليل من الشركات يكون بوسعها إملاء الأسعار التى تهوى على الجمهور. وفى المجتمعات الرأسمالية فإن كل شركة إنما تهدف للوصول إلى مرحلة الإحتكار كى ما تتمكن من التحكم بأسعار المنتوج أو السلعة، فالإحتكار يؤمن لها إنتفاء المنافسة أو ضعفها وما يمكنها أن تنال ما تتمنى من سعر للمنتوج أو السلعة أو الخدمة . وقد يكون الحال أن توجد شركات منافسة قليلة كما هو حال السوق المحلية أو قد توجد شركات كثيرة ضعيفة تضطرها الشركة المسيطرة أو الشركات المسيطرة إلى أضيق الطريق، أو تجبرها على الإنصياع لما تمليه أو تخرج من السوق، ويسمى هذا النوع الإحتكار شبه الكامل أما عندما يسيطر على السوق عدد محدود من الشركات ربما ملاكها هم ذات الملاك أو هم متفرقون ولكنهم قلة تتواطأ على تحديد أسعار السلع كما تختار دون رقيب ولا حسيب، فهذا نوع آخر أدنى درجة هوإحتكار القلة ولكنه ليس أقل ضررا فى حالة التواطؤ بين هذه القلة. والإحتكار هو فيروس الأسواق الأشد ضررا وهو مكروه وملعون بكل لسان . وفى الأثر ( المحتكر ملعون ) وهو أشد لعنة عندما يحتكر أقوات الناس ليكون قليلا معروضها أو نادرا حتى ترتفع أثمانها، أو قد يكون العارض نفسه هو المسعر فيفعل ما يهوى ويشتهى بالسلعة والناس. وأما الإحتكار الذى تعانى منه أسواقنا فهو إحتكار القلة وهوحالة أن يكون السوق لا يتاح فيه إلا عدد محدود من الموفرين للسلعة أو المنتوج أو الخدمة، وفى هذه الحالة إما أن ترتفع السلع بالتواطؤ بين هذه القلة أو حتى بالتفاعل اللصيق بينهم بغير تواطؤ، فكل واحد من هذه القلة يكون شديد المتابعة لتصرفات المنافسين فى السوق فتشتد التأثيرات المتبادلة ، ولما كان هدف الجميع هو زيادة الارباح فإن الأسعار تصعد ولا تهبط ، لأن كل طرف يجارى الآخرين فى رفع الأسعار لتوسيع حجمه فى السوق ، ولا يكون ضحية هذا التواطؤ أو التفاعل إلا الجمهور.ولئن كان الأصل فى إزدهار الأسواق هو المنافسة فإن الإحتكار هو الترياق الذى يقضى على المنافسة. وأفضل الحلول لإستدامة التنافس الحر هو وجود العدد الكبير من الجهات والشركات التى توفر البضائع والسلع والخدمات، ولكن ذلك يتعسر فى إقتصاد صغير مثل الإقتصاد السودانى حيث إن كل الشركات المسجلة الفاعلة لا يتجاوزعددها خمسة عشرة ألفا من الشركات. وعدد غير قليل من هذه الشركات مملوك لأسر هى غالبا ما تعمل فى ذات القطاع . فهناك أسر تعمل فى صناعة وتجارة الزيوت يمكن أحصاؤها على اليد الواحدة أو اليدين وهى تعمل إيضا فى صناعة وتجارة السلع المجاورة للزيوت مثل الصابون ولئن نافسها منافسون هامشيون فهى منافسة لا تكسر إحتكارا . وأسر أخرى تعمل فى صناعة وتجارة الدقيق وماجاوره من صناعة وتجارة وهى تحسب على اليد الواحدة ومنافسوها لا يستطيعون أن يهزوا لها شعرة واحدة .وهناك أسر وشركات تعمل فى تعبئة الشاى والبن وهى محصورة أيضا وهناك شركات محدودة تعمل فى صناعة وتجارة السكر وما جاوره من صناعات وتجارات وهى أيضا محدودة العدد. ولئن كان بعضها مملوكا للحكومة بيد أن الأخيرة لا تتحكم فى تكاليفها ولا أسعارها إلا قليلا.وبعض هذا الإحتكار تتحمل وزره شركات حكومية تحت عناونين عديدة دخلت السوق بحجة توفير سلع وخدمات لمنتسبى قطاعات معينة ثم ما لبثت أن تمددت فى السوق وإستخدمت مصانعة ومداهنة البيروقراطية الحكومية لها لتفرض سيطرتها على بعض السلع إنتاجا أو إستيرادا. وما لم تتحل الحكومة برغبة صادقة فى القضاء على كل أشكال الإحتكارات ،لا سيما تلك التى تحتكر قوت الناس فلن تنخفض الأسعار إلى حد معقول ومقبول أبدا . وعلى الحكومة أن تبدأ بالإحتكارات الحكومية أولاً بالخروج من الأسواق ولايكفى إخراج بعض الشركات وتخصيص بعضها الآخر بينما الشركات الأخرى تتوالد وتتكاثر تحت عناونين أخرى .ثم إنه يتوجب على الحكومة فرض رقابة صارمة على إحتكارات القلة من خلال وضع الأسعار التأشيرية للسلع المحتكرة أو شبه المحتكرة حتى لا يكون المواطن المستهلك ضحية شهوة الإسترباح لدى هذه الشركات.
مايجب على الحكومة عقلاً وشرعاً:
وما يجب على الحكومة عقلا وشرعا واجبا لا يسعها النكوص عنه هو حراسة أقوات الناس من آثار إحتكار القلة، فواجبها فى حماية الكثرة الغالبة أولى من حماية القلة المستربحة ربما بغير تحسس ولا ضمير. وطالما تردد أهل الإقتصاد فى القيام بواجبهم فى حماية المستهلك بسبب أيدولوجيا حرية الأسواق، ونحن نرى جميع الدول التى تتبنى حرية السوق تأخذ إجراءات صارمة لحماية المستهلك، فجارتنا الأقرب المملكة السعودية تتخذ إجراءات صارمة فى وجه الإحتكارات ورغم توسع أسواقها فقد أنشأت آليات فاعلة وحقيقية لإحكام الرقابة على الأسعار وتشديد الرقابة على الأسواق المحلية والتصدي للمحتكرين، وتغليظ العقوبات في قوانين الاحتكار، مع إنهاء الامتيازات الممنوحة لبعض الشركات لأنّ ذلك يسبب أضراراً اقتصادية بالغة على السوق، حيث إتضحت الأخطار التى تواجه الفرد والمجتمع جراء الممارسات الاحتكارية ،كما رتبت الأنظمة السعودية بعض العقوبات لمخالفتها، فقررت عقوبة الغرامة المالية لمن يخالف أحكام النظام بما لا تتجاوز (5.000.000) ريال، وتتضاعف في حالة العودة، وينشر الحكم على نفقة المخالف مع إلزامه بإزالة المخالفة خلال فترة زمنية معينة، ودفع غرامة يومية لا تقل عن (1.000) ريال، ولا تجاوز (10.000) ريال حتى تاريخ إزالة المخالفة، كما صدر نظام المنافسة بالمرسوم الملكي رقم (م/25) في عام 1425هـ وذلك بهدف حماية المنافسة العادلة وتشجيعها، ومكافحة الممارسات الاحتكارية التي تؤثر على المنافسة المشروعة، والذي استقي من أصول التشريع الإسلامي وآخر ما توصلت له القوانين التي توازن بين حقوق المستهلكين والشركات. وعبرت المادة الرابعة من نظام المنافسة السعودى على أنه (تحظر الممارسات أو الإتفاقيات أو العقود بين المنشآت التنافسية أو تلك التى من المحتمل أن تكون متنافسة سواء إكانت هذه العقود مكتوبة أو شفهية صريحة أو ضمنية إذا كان الهدف من هذه الممارسات أو الإتفاقيات أو العقود أو الأثر المترتب عليها تقييد التجارة أو الإخلال بالمنافسة بين المنشآت.
إن اصلاح الأسواق فى السودان والنهوض بمحاربة الإحتكارات يوجب على المشرعين والحكومة مكافحة الممارسات الاحتكارية التي تؤثر في المنافسة، وذلك بإنشاء مجلس أعلى لمنع الإحتكارات وحماية المنافسة من خلال مراقبة الأسواق وتطبيق القانون الرادع على المخالفين، وازالة جميع أنواع الاحتكار، وفرض عقوبات وغرامات غير محدودة على المتورطين في قضايا الاحتكار، وهو الأمر المعمول به فى السعودية وغالب الدول العربية ، وهو مجلس يتوجب أن يعمل على مدار الساعة لمراقبة ومنع التواطؤ على حساب المستهلكين وصيانة أنظمة المنافسة ومتابعة انتهاكات الشركات لحقوق المستهلكين.إن صيانة المنافسة فى الأسواق مطلب لا غنى عنه لتعزيز نمو الأسواق وتطور القدرات الإقتصادية لدى التجار، وأما الاحتكار في سوق ما، فهو يعنى الغلاء المتصاعد في الأسعار، كما يعنى أيضاً عدم توازن الفرص فى الأسواق . فهناك من يربح أرباحا فاحشة ظالمة، وآخرون لا يربحون بالدرجة نفسهاولا ما يقاربها لتلاشى المنافسة في السلعة ذاتها، وإذا أستمر الأمر على ذلك الحال لفترات طويلة، فمن المتوقع طروء زيادات متواصلة في أسعار السلع، يقابل ذلك استياء عارم من المستهلكين، وغضب دفين في نفوس بقية التجار المبعدين من المنافسة مع التجار المحتكرين للسلعة، ولا يتوفر فى حالة الإقتصاد السودانى بسبب صغر حجمه إلا خيار التدخل الحكومى من خلال الرقابة الصارمة. فمن المعلوم أنه ثمة طريقتان فحسب للتعامل مع الإحتكارات إما هيكلة السوق من خلال تشريعات تمنع الاندماج وتوفر تعددية كافية وتضع سقوفا للأنصبة للمشروعات التى تتمتع بوضع إحتكارى أو شبه إحتكارى ، وهوأسلوب يمنع نشوء الإحتكارات ويحول دون تطورها وييسر المنافسة من خلال تعدد الشركات والبدائل ولكن هذا الخيار غير متيسر فى الحالة السودانية. فلا يبقى إلا خيار منع الممارسات والسلوك الضار لاحتكارات لا يستطاع منع وجودها وتجذرها بسبب طبيعة السوق ولايكون ذلك إلا من خلال تشريعات وإجراءات لمنع الممارسات الضارة بالمنافسة وذلك من خلال زيادة حجم السلع المعروضة والتأشير على الأسعار التنافسية فى حدها الأعلى والأدنى .وكذلك رفع القيود التى تحول دون دخول منافسين جدد إلى الأسواق سواء كانت تلك قيودا حكومية أو ممارسات لمنشآت إحتكارية.ولن يجدى فى إنفاذ هذه السياسة الإعتماد على الجهد الحكومى فحسب بل لابد من بناء منظومة كاملة لمحاربة الاحتكار وحماية التنافس وتشمل تعاون الأفراد مع الجهد الحكومى وكذلك قطاع الأعمال الحر والعام والجمعيات ومنظمات المجتمع المدنى . وللإعلام دور مركزى فى هذه المنظومة .وأما آليات هذه المنظومة فمعلومة ومجربة وأولها فى الأهمية هى التسعير التأشيرى.
سياسة فرض الثمن العادل:
وتقوم هذه السياسة على إنشاء مجالس يشترك فيها جميع ذوى الصلة لتنظيم المنافسة من خلال فرض الثمن العادل . وهذه سياسة مارستها الحكومة فى إطار محدود للغاية فى قطاع المواصلات ورغيف الخبز، وكان يجب أن تشمل جميع السلع التى تصنف فى قوت الناس أو الخدمات التى تدخل فى الحاجيات الملامسة للضرورة .وتحديد الثمن العادل يسرى على الحد الأعلى بالإشارة إليه ، وعلى الحد الأدنى حتى لايرخص صاحب شركة الأسعار لإخراج الآخرين من السوق. فكما أن المبالغة فى الإسترباح ممنوعة فإن المواضعة للسعر التى تخرج المنافسين من السوق ممنوعة هى الأخرى . وما بين السعرين الأدنى والأعلى فليتنافس المتنافسون. وهذا التسعير التأشيرى يشارك فى وضعه جميع الفرقاء حكومة ومستوردين وبائعى تجزئة وجمعيات مستهلكين ومنظمات مجتمع مدنى وخبراء إقتصاديين.وهذه السياسة تقتضى الفرض بالقانون أن توضع بطاقات الاسعار على السلع حتى يعلم من يشترى بكم يشترى وهل يتجاوز ذلك الحد الأعلى للثمن العادل أم لا ولكى يعلم التاجر المنافس أن السعر لا يتدنى لمنع المنافسة بل إن أفضل الممارسات المعلومة تواجه بالقانون من يعلن تخفيضا للسلع دون إخطار الجهة المكلفة بالرقابة وعليه حينئذ أن يبرر هذه التخفيضات أما بإختلاف الموسم أوبالجرد السنوى أو بالتصفية أو بقرب الفترة التى تنقضى بعدها صلاحية السلعة ولابد من الاعلان عن كل تخفيض أعلاناً بارزا واضحاً.إن التجربة المحدودة فى فرض الثمن العادل من خلال إطار تأشيرى وليس من خلال فرض سعر واحد للسلعة هى الممارسة الأفضل المعمول بها فى غالب أسواق العالم الحر، وإمتناع منظرى الإقتصاد السودانى عن الأخذ بها يعود لمنحى أيدولوجى فى التعاطى مع المقولات الإقتصادية . وقد أدى هذا النهج للإضرار بالمستهلكين إضرارا بليغا بسبب عجز الإقتصاديين عن حماية التنافس الحر بسبب تجذر الإحتكارات وإمتناعهم عن رفع إصرها عن عموم المستهلكين.
نواصل
د. أمين حسن عمر

مقالات د. امين حسن عمر>>

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!