المسألة الاقتصادية … التسعير التأشيري … “د. أمين حسن عمر”

لا حديث لأحدٍ من الناس هذه الايام إلا حديث الاسعار التى أصيبت بالسعار وضرورة إلجامها دون أن تؤدى سياسات الإلجام هذه للندرة وإختفاء السلع . ولاشك أننا لسنا وحدنا فى السودان من يواجه هذا الموقف فالمطلع على سجالات الصحافة فى بلدان مثل مصر والأردن ولبنان وسوريا سوف يلفى ذات الشكوى ويسمع العديد من المقترحات الصائب منها والخائب. ففى مصر فإن سجال الساعة هو التسعيرة الجبرية أم التسعير التأشيرى الذى يتوافق عليه التجار ثم يلزم به بالقانون سائر البائعين .وفى الاردن يدور حوار حول قائمة السلع التى يتوجب ان تخضع لنوع من أنواع التسعير وأما فى سوريا فإن وزارة التجارة تصدر قائمة تأشيرية ملزمة لطائفة من السلع التى تمس إليها حاجة الجمهور وهى قائمة تصدر بعد التوافق مع الغرف التجارية.
سياسات التسعير فى السودان:
جربت الحكومات السودانية طائفتين من سياسات التسعير هى سياسة التسعيرة الجبرية الادارية وسياسة الأسعار المحررة دون إيجاد جهة مركزية لتحديد الاسعار سواء أكانت حكومية أو أهلية. وقد جربت حكومة الراهن سياسة التسعير الجبرى فى الدواء والخبز وأسعار خدمات النقل بعد أن جرى تخفيف الأمر بالتشاور فى تحديد الاسعار مع اتحادات الصيادلة والخبازين وأصحاب الحافلات. فهو تسعير جبرى لأنه يحدد سعرا واحدا للوحدة الواحدة من السلع أو الخدمات ولو أنه حدد السعر الأعلى والأدنى لأصبح سعرا تأشيريا .لأن التسعير التأشيرى لا يحدد سعراً واحدا بل مساحة تسعيرية بين حد أدنى وحد أعلى . وقد يحدد عدة أسعار تأشيرية إذا كانت فروق الجودة أو التكلفة متفاوتة بصورة ملموسة . ولا يتم فرض ذلك السعر التأشيرى إلا بتوافق طوعى بين البائعين والمراقبين للأسعار. والسعر التأشيرى معمول به فى الصرف أى فى تسعير العملات الأجنبية بموازاة الدولار . ولذلك فإن مفهوم التسعير التأشيرى ليس مفهوماً بعيد النجعة عن الممارسة أو الخبرة السودانية فى التعامل مع السياسات التسعيرية. لاشك أن الهدف من التسعير التأشيرى هو تحقيق قدر من ضبط الاسواق لمنع التغابن بين البائع والمبتاع. وهو أمر كما أسلفنا مشروع ومقبول من الناحيتين الدينية والمدنية . لأن مقصوده هو التوافق على سعر عادل ، خاصة فى السلع التى تمس إليها الحاجة العامة. والتسعير من هذا النوع طوعى لا جبرى أى أنه لا يفرض ولا يكون مشروعا إلا بالتوافق بين السلطة الرقابية وممثلى العارضين للسلع والخدمات. والتسعير فى هذه الحالة يراعى متغيرات متعددة منها سعر التكلفة الذى يشمل كل مكونات التكلفة سواء كانت تكلفة إنتاج أو تكلفة جلب ونقل أو ترويج و إعلان ، كما يشمل إعتبار المواسم فالأسعار فى مواسم الانتاج ليست مثلها فى غير الموسم . كما يضع فى الاعتبار أهمية حالة التنافس على السوق ، بقياس إن كان السوق سوقا محتكرة من قلة أم واسعة التنافس. كما يلزمه أن يضع فى الاعتبار تفاوت الجودة بين سلعة وسلعة . وكل هذا يعرفه التجار ويقدرونه خير تقديره . لكن الطريقة الصحيحة لوضع الاسعار للسلع هى أن يخصص مجلس متخصص في تحديد الاسعار، فيقوم هذا المجلس المكون فى غالب أعضائه من الغرف الصناعية والتجارية وغرف النقل ومن ممثلين للمستهلكين إضافة إلى الجهات الرقابية الحكومية بدراسة العوامل التي لها تأثير في تكوين القيمة وفاقاً للأسلوب التالى
: 1ـ وضع السعر طبقا لدراسة النفقات المصروفة على السلعة بالاضافة إلى ملاحظة الجودة ، وملاحظة نسبة العرض والطلب ومقدار تأثيره في القيمة، فيجب ان تحدد الاسعار للسلع وفقا للعوامل المؤثرة في تحديد القيمة.
2ـ ان تكون تلك الجهة المحددة للأسعار على اطلاع كامل على المؤثرات العديدة على اسعار السوق الحالية ، فان سعر السوق له دور كبير أيضا في تحديد القيمة المناسبة للسلعة، فيجديها أن تأخذ بنظر الاعتبار عدم اختلاف السعر الذي يحدده المجلس عن السعر العادل فى السوق.
3ـ ان يقوم المجلس بوضع نسبة من الربح لمستويات البيع بالجملة والتجزئة بحيث لا يجوز للباعة طلب نسبة ربح أكثر من الحد الأعلى وقد يجوز لهم النزول للحد الأدنى حتى لا يتحقق الاجحاف لا بالبائع ولا المبتاع.
وهناك رأيان فى مسألة التسعير التأشيرى هذه ، هل يكون جبرياً أو طوعياً وبين الرأيين رأى ثالث. والرأيان المختلفان للتعامل مع دليل مؤشرات الأسعار هما: الرأي الأول يعتبرها غير ملزمة ومخصصة للمستهلك للإطلاع عليها على غرار البورصة العالمية وذلك ليصبح على معرفة ودراية بزيادة أو انخفاض الأسعار وأسباب ذلك وبما يســـاعد جمعيــات حماية المستهلك من القيام بدورها بنشر الوعي .
والرأي الثاني: يريد من مؤشرات الأسعار أن تكون أدوات جديدة لضبط الأسواق لتكون نفسها حدا أعلى لا يمكن تجاوزها في السلع غير المحررة ، إضافة لوضع حد أقصى للربح للسلع المحررة موزعة بين المنتج والموزع التاجر ولكل طرف حصة محددة منها ، وبذلك نصل إلى ضوابط أفضل من تلك الفوضى العارمة التى تضرب الاسواق. وأما الرأى الثالث فهو قد أخذ من هذا وذاك ، بمعنى أن توضع قائمة من السلع الضرورية يكون السعر التأشيرى فيها جبريا وهذا هو المعمول به فى سوريا وقائمة أخرى من السلع محررة وخاضعة لمطلق معادلة العرض والطلب . ولاشك أن السودان كما أسلفنا قد عمل بهذه القائمة فى سلع قليلة هى الخبز والدواء والنقل فى العاصمة . ولكن يلزم توسيع قائمة السلع لتشمل كل الاقوات كما يرأى الأحناف ، فمنع التغابن فى اقوات المسلمين يوجب على الحاكم دفع الضرر عن العامة ، كما يجب أن يشمل قائمة من الخدمات التى تمس إليها الحاجة مثل الخدمات العلاجية وخدمات النقل والإتصال. وربما يشكك المشككون فى جدوى هذا المسار لأسباب تحرك سعر السلع المستوردة بتذبذب سعر العملات الأجنبية . وهى حجة داحضة لأن من يحدد السعر بصورة دورية مطلع ولا شك على هذا التذبذب . فكما يضعه الباعة الافراد اليوم فى الاعتبار فإنه يسع مجلس التسعير ان يضعه فى الاعتبار . وان تكون دورية دليل الاسعار متناسبة مع مستوى التذبذب ، ولكن هذا التذبذب أقل بكثير فى المنتجات المحلية . وغالب هذه السلع المحلية هى ما تمس لها حاجة المواطنين . وهى إنما ترتفع تجاوباً مع أسعار المستورد من السلع ، حتى كأنه قد جرت (دولرة ) تامة للأسواق المحلية. وربما واحدة من فوائد هذا النظام هى رفع الوعى الاستهلاكى لدى المواطنين . سواء كانوا بائعين أم مبتاعين. فقد سادت الثقافة الخاطئة لدى البائعين والمنتجين والتجار الذين اعتقدوا أن تحرير الأسعار يعني انفلاتها بلا ضوابط ، بعدما سحبت الدولة يدها من التسعير جبريا أو تأشيريا ، وتركت واجبها فى ضبط الإنتاج والاستيراد . وأستعلى نتيجة لذلك المحتكرون والمستوردون الذين يستوردون السلع الرديئة الغالية الأثمان ثم يضاعفون أثمانها كيفما تسول لهم نفوس جشعة ،مما خلق اقتصاد الفوضى . وأصبحت معظم السلع والخدمات الأساسية رهن الاحتكار والتسعير المزاجى الفوضوى. ودليل الأسعار التأشيرى يمكنه أن يساعد في الكشف عن المعلومات عن أسعار السلع وتكاليفها لأن من يضعه هم أهل الاختصاص والخبرة والمنفعة ، ويمكنه بلا شك ووضع حد للممارسات الخاطئة .فمما لا شك فيه أن إصدار جدول دورى بالأسعار التأشيرية وإصدار دراسة دورية لحركة الأسعار العالمية وربطها مع تغيرات الأسواق من جهة ثانية سوف ينجم عنه توعية المستهلكين وتبصيرهم بالأسعار المنطقية للسلع والخدمات ، لئلا يكونوا ضحايا غافلة لإستغلال والإستغفال. وقد أثبتت تجارب دول عديدة أنه بالإمكان وضع سعر تأشيري للسلع والخدمات مقارب للواقع وبدقة فائقة ، وذلك من خلال دراسة التكلفة الشاملة للسلعة أو الخدمة مهما كانت طبيعتها زراعية أم صناعية أم حرفية . و ينطبق ذلك بشكل كبير على السلع المحلية ، بينما يمكن تطبيقه على السلع المستوردة حتى في ظل تذبذب الأسعار العالمية مع ما يرافقها من تذبذب لأسعار الشحن والنقل إضافة للظروف القاهرة والطارئة التي تتعرض لها السلع وكذلك تغير قيمة سعر صرف الدولار محليا ذلك إن أعضاء المجلس من ممثلى غرف الأنتاج والغرف التجارية على دراية ومهارة فى التعامل مع مثل هذه الاوضاع.
التسعير التوافقى سنة إسلامية:
يزعم بعض أهل الفقه أن التسعير مكروه أو هو حرام بنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ، ولكن هؤلاء لم يفقهوا ماهو التسعير المنهى عنه . فالتسعير المنهى عنه هو التسعير الجبرى الذى لاينظر فيه السلطان إلى مصلحة البائع والمبتاع على حدٍ سواء . ولكن غالب فقهاء المسلمين يجيزون التسعير التوافقى الذى يراعى مصلحة الاطراف جميعا . ويكاد يجعله بعضهم واجباً فى الأقوات ، بخاصة فى أوقات الندرة أو عند تفشى الاحتكار .وقد عرفت الاسواق الإسلامية هذا الضرب من التسعيرففى الاندلس صار من واجب الدولة تحديد أسعار السلع الغذائية ومراقبة الالتزام بها من خلال موظف متفرغ هو محتسب السوق . وبخاصة فى أوقات الضيق والشح والإضطرابات ، و كان ذلك على عهد ممالك الطوائف الاندلسية وعلى عهد الموحدين . فكانت الدولة تتدخل لحماية أقوات الناس وكانت تفرض أسعاراً على القمح والشعير والحنطة وسائر المواد الغذائية التى تمس لها حاجة الناس.يقول الونشريسى (كان صاحب السوق يأمر أهل الريف إذا جاءوا بالطعام أن يبيعوه فى السوق ولا يتركوه فى البيوت حتى لا يشتريه تاجر واحد أو عدد من التجار فيتحكموا فى السعر إلا أن أصحاب المحاصيل كانوا يفضلون البيع لتاجر جملة واحد ليتخلصوا من البضاعة ويعودوا لأريافهم مما فرض على السلطان وضع سعر عادل للمحاصيل فى الاسواق.) أما عملية التسعير فتتم بالطرق الودية بين المحتسب الذى يمثل جانب الحكومة وبين وجوه التجارمن كل سوق وفى هذا يقول يحى بن عمر(فإذا أراد الامام العادل أن يسعر شيئا من ذلك فيجتمع وجوه أهل سوق ذلك الشىء فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون؟ فإن رأى شططاً نازلهم على مالهم وللعامة فيه صلاح حتى يرتضوا به ، ويتعاهد ذلك منهم فى كل حين ، فمن وجد منهم قد زاد فى الثمن أمره أن يبيع كأصحابه وإلا أخرجه من السوق وأدبه ، وإن أراد واحد منهم أن يبيع بأرخص من ذلك لم يمنع من بيعه ) إلا أن يقصد إخراج غيره من السوق فعندئذ يمنع. وكان المحتسب شديداً على أشكال الاحتكار كافة أو تلقى البضاعة خارج الاسواق لإغلاء سعرها فى السوق بغير عمل مضاف على السلعة. وإنما أسوق شيئا من ذلك التاريخ ليتعلم منه حكامنا وولاتنا أن الاسواق ما كانت لتترك بغير ترتيبات دقيقة ورقابة حازمة ، فإنه كما يقول القائل قطع الارزاق مثل قطع الاعناق ومن قطع عنقاً ودى به يا أهل الألباب.
د. أمين حسن عمر

مقالات د. امين حسن عمر>>

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!