حوار مع الدكتور عبدالوهاب الافندي!

 تبدو صورة الأفندي، بالنسبة للكثيرين، أقرب إلى صورة لاعب السيرك الذي شدت له الحبال، وعليه أن يسير فيها محاذراً أن تصيب قدمه موطئا زلقا يدق عنقه الفكري، خصوصاً في السنوات الأخيرة التي شهدت الاختبار الحقيقي للمشروعات السياسية المنسوبة إلى (جماعة الإسلام السياسي)، فقد بدأ الأفندي حياته إسلامياً، ينتمي إلى مشروع رسولي لا يقبل الهرطقة والخلاف، لكن رويداً رويداً انتهى به الأمر “إسلامياً ليبراليا”، إذا كانت هذه التسمية تعني “الإسلام السياسي المعتدل، المتسامح مع الآخر”. ربما انتهى الأفندي إلى ذلك بسبب وجوده الأكاديمي في كبريات الجامعات ومراكز البحث في بريطانيا. وبالطبع، هذا ما أتاح له فرصة أن يعمل ذهنه في اختبار القيم التي تطلق على الآخر المختلف. لكن، يظل التأثير الأكبر للتحولات الكبيرة في تفكير الأفندي، لو جاز الوصف، يظل هذا التأثير مسنوداً إلى الإخفاقات المتفق عليها في تجربة الإسلام السياسي (السني والشيعي)، التي انتظمت المنطقة العربية وبلاد فارس منذ سبعينات القرن الماضي، وهي تجارب لا يمكن أن تمر على باحث مثل الأفندي قبل أن يتبعها بالبحث والتقصي، لتلافي صيغة الإسلام السياسية المشابهة لبيئته الأولى، لا بمعنى التحقيب، إنما من حيث التأويل.
* مرحباً بك، لندلف من بوابة المراجعات؛ متى فكرت في كتابة كتابك (الثورة والاصلاح السياسي في السودان)؟
– تحياتي. كنت قد دأبت منذ قيام ثورة الإنقاذ على كتابة مقال أو أكثر في حوالي الثلاثين من يونيو لإجراء تقييم لأداء الحكومة في العام المنقضي. وفي ذلك العام (1995)، بدأت في ذلك ووجدت أن ثلاثة مقالات، وهو الحد الأقصى المعتاد، لن تكفي، فواصلت حتى بلغ العدد الخمسة والعشرين، فكان الكتاب.
* كنت أول من أشار إلى السوبر تنظيم الذي أكل الحزب لاحقا، كيف لامست هذا التنظيم أول مرة؟
– لم يكن السوبر تنظيم سراً، وقد كانت هناك إشارة واضحة إليه في كتاب الشيخ حسن الترابي “الحركة الإسلامية في السودان” الذي صدر في عام 1990، وإن لم يكن باستخدام هذه العبارة. وقد كانت ملامح هذا التنظيم اتضحت لي أثناء إعداد رسالة الدكتوراه عن الحركة الإسلامية في الثمانينيات، وهي الرسالة التي صدرت مختصرة في كتاب “ثورة الترابي” عام 1991. فقد ظهر من دراسة البنية التنظيمية أن جوانب المال وجوانب العمل السري الأخرى (مثل الاستخبارات والاتصال بالجيش) كانت تقوم بها مجموعة ذات نفوذ خاص، ولا تخضع للتغيير عبر الانتخاب، ولا تكون معلومة لبقية الأعضاء.
* الحركة الإسلامية أقلية انتخابية في السودان، ربما، وفقا لتركيبته الاثنية، والطائفية، وهذا ما قادهم إلى الانقلاب عند التفكير في الحكم.. هل تتفق؟
– ما قاد الحركة للتفكير في الانقلاب لم يكن ضعفها الانتخابي وإنما التهديد الذي مثلته الحركة الشعبية التي أدخلت العمل العسكري إلى قلب السياسة السودانية. وكانت الحركة الإسلامية عانت في مطلع السبعينيات من الانقلاب اليساري الذي اجتهد في تدمير الحركة، وكانت تنظر إلى الأوضاع العربية حيث قامت انقلابات لأحزاب يسارية لا وزن لها أو مجموعات صغيرة من الضباط، كما حدث في سوريا والعراق ومصر وغيرها. وقد قامت هذه الأنظمة الانقلابية بما يشبه الإبادة الجماعية للإسلاميين في بلدانها. وقد زاد هذا الخوف بعد صدور مذكرة الجيش في فبراير عام 1989، حيث ساد الشعور بأن الجيش والحكومة لم يكونا قادرين على مواجهة ضغوط الحركة الشعبية، أو التصدي لها عسكرياً أو سياسياً. وعليه فإن التبرير في ذلك الوقت هو أن الديمقراطية انتهت عملياً مع تدخل الجيش تحت ضغط الحركة الشعبية والحصار الخارجي الذي كان يتعرض له السودان وقتها.
* طالما عجزت الحركة الإسلامية من التحول إلى حزب جماهيري في السودان، أعتقد أن السوبر تنظيم ضرورة؟
– التنظيم السري لم يكن ضرورة قبل الانخراط في العمل السري بعد انقلاب مايو. ولكن العمل السري يستدعي بالضرورة منظمة سرية. وقد كانت الحركة قبل انقلاب مايو تشعر بأنها في بيئة حاضنة مواتية تستشعر الأمن والطمأنينة في إطارها. ولكن انقلاب مايو كشف الخطر الذي يمكن أن تمثله فئة صغيرة معزولة إذا أمسكت بالسلطة.
* انقسام الحركة الإسلامية عام1999م والذي عرف بالمفاصلة، قاده كادرات الحركة في مواجهة التنفيذيين في الدولة، لماذا لم ينقسم السوبر تنظيم برأيك؟
– السوبر تنظيم لم يسلم من الانقسام، حيث أن زعيمه ومحوره الشيخ الترابي، وعدد من كبار مساعديه من أمثال الشيخ إبراهيم السنوسي والدكتور على الحاج كانوا في جانب والبقية في جانب آخر. وفي حقيقة الأمر أن المفاصلة كانت تمثل تمرداً من قبل التنظيم السري على قائده لأنه رأى أن تصرفات الترابي أصبحت تهدد النظام والتنظيم معاً.
* وضعكم كـ(مفكراتية) كان دوما على هامش الحركة كما أوضح ذلك التيجاني عبدالقادر في إحدى مقالاته؟
– في اعتقادي أن التهميش لقطاع المفكرين كان جزءاً منه بالاختيار، بسبب ضعف الإنتاج الفكري، وجزءاً منه مؤسسياً بسبب اعتماد هياكل التنظيم على التعبئة الجماهيرية، ثم في ما بعد سطوة المال والدولة. على سبيل المثال، عندما كنت أعد دراستي عن الحركة الإسلامية في منتصف الثمانينيات، لم أجد للحركة أي انتاج فكري ذي بال، سوى كتابين ومجموعة محاضرات للشيخ الترابي. أما بقية أقطاب الحركة فلم ينشروا شيئاً. ولم تكن الحركة في ذلك تختلف كثيراً عن بقية الأحزاب السودانية التي تميزت بفقر فكري واضح، بما في ذلك الحزب الشيوعي. وقد كانت الاستثناءات وقتها الأعمال التي نشرها الصادق المهدي زعيم حزب الأمة ومنشورات الإخوان الجمهوريين. وفي منتصف السبعينيات، بعد ظهور حركة البنوك الإسلامية وإعلان المصالحة الوطنية، تزايد نفوذ التنظيم السري، لأنه الجهة التي أصبح بيدها توزيع الغنائم والمناصب. وقد زاد هذا النفوذ بعد انقلاب عام 1989، حيث سعى التنظيم السري إلى استقطاب أصحاب الكفاءات إلى صفه. وقد علقت في كتاب الثورة والإصلاح السياسي على الظاهرة الأولى بتسميتها “عقلية أحد”، والتسابق على الغنائم، وعلى الثانية بانتقاد زيادة نفوذ بعض الأجهزة وتخصيص الموارد لها، مقابل الأنشطة الفكرية والثقافية مثل الإعلام. وقد عنى هذا انصراف الشباب عن أنشطة الفكر والعلم إلى حيث المكاسب والمغانم.
* الحركة الوطنية للتغيير هي حركة (مفكراتية) لا أكثر فهي حركة اعتمدت بصورة أساسية على القدرات التنظيمية والأمنية عبر مختلف الحقب؟
– الحركة الوطنية للتغيير هي حركة تصحيحية تأخرت كثيراً، تسعى إلى إعادة التركيز على ما هو أساسي في أي حركة سياسية، ناهيك عن أي حركة إسلامية، وهو التركيز على القضايا الفكرية والأخلاقية. فجوهر أي حركة هو فكرها ومنظومتها الأخلاقية. أما إذا كانت هناك حركة تعتمد على القهر من جهة والرشوة من جهة أخرى، فما هو الفرق بينها وبين الحركات البلشفية مثلاً أو الأنظمة القمعية ذات الموارد النفطية أو غيرها؟ فالإسلام في جوهره هو دعوة، ومحتواه فكري أخلاقي. والمهم إعادة التركيز على الرسالة الجوهرية، وإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، كما جاء في صحيح التنزيل.
* في مثل هذه الحركات فإن المفكر غالبا شخص واحد، والفكرة واضحة، التنفيذيون هم المطلوبون، ألا تعتقد أنكم اخترتم بأنفسكم أن تكونوا على الهامش؟
– البقاء على هامش الباطل والفساد هو الخيار الصحيح، ولكن بالعكس أعتقد أن الرسالة الأخلاقية الصحيحة هي ما يحتاجه الشباب الذي ينجذب غالباً إلى المثل والقيم العليا. والحركة الإسلامية استمالت في بداية أمرها الشباب إلى فكرها وقيمها ومثلها، وكذلك كل الحركات الواعدة. وقد لمسنا في الشباب تعطشاً إلى العودة إلى المسار الصحيح، وهم الذين دفعونا إلى إعلان الحركة دفعاً. وأعتقد أن رسالة الحركة موجهة إلى كل طوائف الشعب السوداني من أجل العودة إلى المسار الصحيح، وهو مسار التوجه الديمقراطي البعيد عن الإقصاء، ومسار الحوار بين كل تيارات المجتمع، ومسار الفهم الأخلاقي الصحيح للإسلام وقيمه. وهذه رسالة تقدم نفسها بنفسها، ولا تحتاج إلى إغراءات أو تهديدات من خارجها لضم الناس إلى صفها. ونحن نرى أن واجبنا هو التصدي لهذه المهمة بغض النظر عن العقبات.
* ما حدث لإخوان مصر كيف يؤثر على إخوان السودان؟
– ما حدث في مصر له جانبان، الأول أخطاء حركة الإخوان وعجزها عن طرح صيغة تتوحد حولها القوى الديمقراطية في مصر، على خلاف ما حدث في تونس مثلاً. أما الجانب الآخر فهو سعي فلول النظام القديم إلى العودة إلى نظام القهر والفساد مستغلين أخطاء الإخوان، وانحدار كثير من القوى اليسارية والعلمانية إلى حضيض التعاون مع هذه القوى. وفي نظري أن ما حدث في مصر يعتبر دفعة للإسلام والإسلاميين، وإعلان إفلاس من القوى المنافسة، فقد شهدنا سقوط حامدين صباحي، أحد أبرز رموز التيار الناصري، في حضيض النفاق والتبعية للعسكر، وسقوطه الانتخابي حيث لم يحصل إلا على أصوات قليلة مقابل أكثر من 18% في الانتخابات الديمقراطية. وهذه إعادة إنتاج للأوضاع التي أدت إلى صعود الإسلاميين أساساً، وهي تؤيد حجة الإسلاميين في السودان بأن انقلابهم كان صحيحاً، لأنهم لو سمحوا بحدوث ما حدث في مصر اليوم عام 1989 لكانوا جنوا على أنفسهم وعلى السودان. ولا يعني هذا أن موقف الإسلاميين في مصر أو السودان كان صحيحاً، لأن صعودهم في الحالين لم يأت بسبب حسن أدائهم بل بسبب سقوط الآخرين. وفي نظري أن العبرة من حالتي مصر والسودان هي الحاجة إلى حركة إسلامية إصلاحية مستنيرة، تستفيد من أخطاء الماضي، ولا تعتمد فقط على أخطاء الآخرين وسقطاتهم. ولعل ما يجب اتباعه هو النموذج التونسي في الانفتاح والتعايش، وليس أي من النموذجين المصري أو السوداني في الانفراد بالسلطة والعنف
اليوم التالي

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!