“من ضيع السودان” عشر مخازٍ سودانية – الحلقة (2) “عثمان ميرغني”

حرص المستِعمر البريطاني على تثبيت أركان دولة ذات قوام مدني متقدم في السودان، فوضعوا القوانين واللوائح، وأسسوا دولاب خدمة مدنية فعال، يضاهي ما هو موجود في أوروبا، وأرسوا المشروعات الاقتصادية الكبرى مثل مشروع الجزيرة، وخزان سنار، وميناء بورتسودان، ومد السكك الحديدية بين المدن الكبرى، وعندما جاءت لحظة الفراق بإعلان الفترة الانتقالية.. وخروج المستعمر كان السودان في أفضل حالاته التي تسمح له بالانطلاق.. لكن.. وما أصعب (لواكن) السودان.. وقع في أول حفرة.. أول المخازي العشر.. مشروع السودنة..!!
ما هي السودنة؟؟
السودنة Sudanization هي عملية إحلال الموظفين الأجانب بموظفين سودانيين، لكن ذلك هو المعنى العلمي (البريء).. فهي في غالبها – إلا من رحم ربي- لم تكن عملية إحلال وطني لمستعمر أجنبي بقدرما كانت إهلاكاً وطنياً لقيم رسخها المستعمر في الخدمة والعمل الإداري والديواني.
نهب التركة البريطانية!!
تحولت (السودنة) إلى أكبر عملية نهب لثروة إدارية ومؤسسية تحت أنياب من (طمع) شخصي وحزبي في (التركة) التي أورثها الاستعمار الحكومة الوطنية بعد رحيله، كما سيظهر في ثنايا المعلومات والأدلة التي أضعها بين يديك.
بدأت عملية السودنة مع تسلم أول حكومة سودانية وطنية مقاليد الحكم في 9 يناير 1954.. وهي حكومة انتقالية نشأت بموجب اتفاقية (فبراير 1953) مع دولتي الحكم الثنائي لتتيح فترة انتقالية قبل نقل السيادة إلى الحكم الوطني.
واستمرت عمليات السودنة حتى أغسطس عام 1955، وكانت أكبر الكوارث الفورية للسودنة اندلاع التمرد الشهير في مدينة (توريت) في جنوب السودان في 19 أغسطس 1955، الذي أدى إلى مجزرة دموية عنيفة اجتاحت عدة مدن جنوبية، أسفرت عن مقتل عشرات من الشماليين- المدنيين والعسكريين.
مطامع مبكرة..!!
بكل أسف المفاهيم التي قامت عليها السودانة ازدحمت بالمطامع في وراثة ما خلّفه المستعمر من مزايا وظيفية، كانت تبدو للسودانيين عزيزية المنال، أو ضرباً من الأحلام.. وجاهة المكاتب الكبيرة، والبيوت الكبيرة التي كان يسكنها الموظفون البريطانيون.
التحضير للسودنة!!
عز على الاستعمار وهو يستعد للرحيل أن تنهار مؤسساته التي بناها طوال (58) عاماً مضت.. فاقترح على السودانيين أن تتمرحل عملية الإحلال والإبدال تدريجياً في فترة مناسبة تسمح بانسياب الخبرة والمحافظة على الاستقرار الإداري في البلاد.
اقترح البريطانيون فترة ثلاث سنوات لإكمال السودنة.. وهنا (اندلعت ثورة منك خانها الجلد) على رأي شاعرنا العباسي في قصيدته التي غناها الفنان الطيب عبد الله. عدّ السودانيون أن المستعمر يحاول إطالة عمره في البلاد.. خدعة منه للحصول على زمن إضافي بعد نهاية عمر المباراة.
وكانت فكرة البريطانيين أن السودانيين ربما تلقى بعضهم التأهيل والتدريب المناسب للقيام بأعباء الإدارة.. لكن الجانب السياسي المهمين على الإداري لا يزال رخواً، قد يؤثر على الأداء الإداري ويحبطه.
كان الاقتراح البريطاني أن يتولى السودانيون المناصب السيادية السياسية الأعلى فوراً.. على أن يستمر الموظفون البريطانيون في الوظائف الإدارية الفنية التي تتطلب قدراً أكبر من الخبرة والحنكة الإدارية.. يستمر هذا الوضع ثلاث سنوات.
رفض السودانيون الفكرة- بكل قوة، بل ورعونة.. وبعد شدّ وجذب اقترح الجانب السوداني فترة قصيرة لا تتجاوز عاماً واحداً فقط بعدها يجتاح خلالها طوفان السودنة كل المرافق العامة.
خروج جماعي مبكر!!
الروح التي كانت سائدة بعثت رسالة سالبة إلى الجانب البريطاني.. فهي لم تكن مجرد مفاوضات (فوز- فوز) للجانبين بقدرما كانت مواجهة فيها درجة ملموسة من العداء.. كانت النتيجة هي رفض الموظفين البريطانيين الاستمرار في الخدمة والمطالبة بإنهاء خدماتهم، وعودتهم فوراً إلى بلادهم.
ربما كان الجانب السوداني سعيداً بهذه العجلة.. وهو يرى المزايا الوظيفية التي كانت تحيط بالموظفين البريطانيين، ولم يكن في الخاطر إلا الانقضاض على تركة البريطاني- بأعجل ما تيسر.. دون نظر أو بصيرة لما يمكن أن يؤدي ذلك من أضرار في المستقبل بمصالح البلاد كلها.
نهم وجشع السودنة!!
بكل نهم.. شرعت لجان السودنة في إعداد كشوفات الوظائف التي يشغلها الأجانب (بريطانيين ومصريين وغيرهم)، حتى قبل أن تنظر في كشوفات الكوادر السودانية الوطنية التي تتوفر فيها الكفاءة والتأهيل المناسب لتلك الوظائف.
بدأت عمليات السودنة مع تسلم أول حكومة وطنية انتقالية الحكم في 9 يناير 1954، واستمرت أكثر من عام ونصف حتى أغسطس عام 1955.
صحيح بعض القطاعات نالت من يستحقها من الكفاءات السودانية، مثل رئاسة القضاء التي تسلمها مولانا محمد أحمد أبو رنات في 21 سبتمبر 1955، مسنوداً بخبرة في الخدمة المدنية عمرها (45) عاماً، منها (20) عاماً في السلك القضائي- وحده، وحصل على دراسات عليا في بريطانيا، وشغل منصب قاضي بالمحكمة العليا، بينما كان نصيب منافس أبو رنات القاضي أحمد متولي العتباني أن يصبح أول نائب عام سوداني.. ووظائف أخرى لسودانيين كانوا يتمتعون بالخبرة والتأهيل والفكاءة.
زلزال السودنة يهز الخدمة المدنية!!
اجتاحت السودنة المتعجلة وظائف الخدمة المدنية الحساسة، كما تجتاح النار القصر الفخيم، فهزت- كثيراً- أركان المؤسسات التي ربما قاومت- قليلاً- لكنها بالضرورة بدأت في الانحطاط التدريجي.
أم الكوارث.. والمخازي!!
لكن (مخازي) السودنة لم تقف عند هذا الحال..
كان أفجع ما أورثته السودنة أنها جسرت الحد الفاصل بين الخدمة المدنية والملعب السياسي، وهنا تكمن الكارثة التي ندفع ثمنها إلى هذا اليوم، وربما إلى أجيال قادمات- إن لم نتدارك الأمر.
تحلت الخدمة المدنية خلال فترة الاستعمار بكثير من الحياد الإيجابي، الذي وفر لها استقلالية أسهمت في تجويد الأداء، وبسط سيادة القانون، على أية اعتبارات سياسية، أو أخرى.
(كان كدا ما خربت!!)..
لكن طوفان السودنة المتعجل اعتمد في قوة دفعه على سيقان السياسة، وأطماع الساسة، الذين كانوا في أشد عنفوان التنافس– الأجدر أن نقول الصراع– السياسي، واختلطت في أذهانهم نوايا الكسب السياسي بقيم العمل الديواني المحايد، كما سنرى من خلال هذا التحقيق.
كانت تلك هي الضربة الأولى الموجعة التي وجهت إلى الخدمة المدنية السودانية، من بوابة السودنة أدخل الساسة حصان طروادة في قلب المدينة الفاضلة للخدمة المدنية السودانية، وزرعوا فيها أول بذور النباتات السياسية المتسلقة.
أحد كبار الموظفين السودانيين- الذي وجد نفسه بين ليلة وضحاها يجلس على كرسي المدير البريطاني (المسودن)- تجول بنظره في المكتب الكبير، ثم نظر من النافذة إلى فناء الوزارة الضخم وفيه عشرات الموظفين يتحركون مثل خلية النحل- سأل ببراءة (كل هؤلاء هم الآن تحتي؟)، ردوا عليهم بالإيجاب.. فقال- بصوت عال وكأنه يحدث نفسه: (كان كدا ما خربت!!)..
لم يكن مجرد تعليق عفوي صدر من هذا الموظف السوداني المبهور بالتركة الثمينة.. بل هي لحظة صدق طارئة نطق بها لسانه وهو يدرك على أي مؤهل أو كفاءة اتكأ ليبلغ درج هذه الوظيفة الرفيعة الحساسة.
سأخذكم من خلال سطور هذا التحقيق- خطوة خطوة- لتدركوا أن السودنة- التي كانت أول المخازي السودانية- فرشت التربة المناسبة بعد ذلك لتتبت عليها مخازٍ مرتبطة بها، سيأتي ذكرها في ترتيبها الزمني.. هذه المخازي تمثلت بعد ذلك في التطهير الوظيفي، بعد ثورة أكتوبر 1964.. ثم التطهير الوظيفي في بداية عهد مايو 1969.. ثم النقلة الهائلة في مفاهيم التطهير الوظيفي التي حدثت في 1989 عهد الإنقاذ، تحت عباءة (التمكين)، وأطلق عليها سياسات (الصالح العام).. وطالت آلاف الموظفين على شبهات سياسية فجة، وكانت أكبر نكبات الخدمة المدنية فأتت على ما تبقى منها تماماً.
كل حملات التطهير الوظيفي هذه كانت نباتاً متسلقاً، زرع في ثنايا عمليات السودنة، (أول المخازي العشر).
ونواصل غداً في المخازي العشر..
نواصل بإذن الله غداً في المخازي العشرة ..
في الحلقة التالية بإذن الله..
عثمان ميرغني
التيار

رابط كل الحلقات!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!